محمدو ولد البار |
كلمة الاصلاح هذه المرة ستتوجه كعادتها في كل مطلع شهر ذي الحجة عندما تختلف رؤيتنا مع رؤية السعودية ويكون عند السعودية يوم يسمى يوم عرفة لوجود حجاج بيت الله الحرام بعرفة، ويكون عندنا يوم نسميه عرفة، ولا جبل عندنا يسمى عرفة، فعرفة البلاد المقدسة لا حج فوقه بمعنى لا عبادة فوقه في ذلك اليوم ولا ملائكة ولا دعاء إلى أخر مميزات يوم عرفة في الإسلام بل الحق أن علينا أن نسميه يوم تاسع ذي الحجة لعدم إعلان لجنة الأهلة عندنا للرؤية.
ونتيجة لهذه المأساة الدينية كل سنة وهي أن بعضنا لا يصوم عرفة ذي المميزات الكثيرة في الإسلام ومن أهمها أنه يكفر السنة الماضية والقادمة مع كثرة احتياجنا لذلك.
والكثير منا يصوم هذا اليوم التاسع من رؤيتنا مع احتمال أنه يوم العيد المحرم صومه فعلى هذا أظن أنه واجب على كل من يستطيع أن يوجه أن يفعل ذلك محتسبا عند الله الأجر.
فمن المعلوم أن الرؤية وعدم الرؤية تختلف نتائجهما فوجود الرؤية يلزم من وجوده الوجود وهو شهر ذي الحجة وما يترتب على ذلك، وعدم إعلان لجنة الأهلة للرؤية لا يلزم منه عدم وجود الرؤية لحصولها في بعض البلاد ويترتب على ذلك الكثير من نفحات رب السموات ورب الأرض رب العالمين ولزوم عدم الرؤية يترتب عليه فوات هذه النفحات العلوية المتعلقة بوجود أشياء مادية لا وجود لها في ذلك اليوم.
وهذا تكرر كثيرا في عصر أصبحت فيه أقطار المسلمين كأنها قطر واحد (إن لم يكن في السياسة التي يظن أهلها أنهم قادرون عليها؛ وأن أمرها يتعلق بالحياة فقط) ففي جميع الأنشطة الإنسانية الأخرى من مواصلات واتصالات ومعرفة المسافات بدقة برا وجوا إلى آخر ما يعين على انتهاء هذه الكارثة الدينية المتكررة.
فمن المعروف عند كل عاقل أن القضية تتعلق برؤية هلال هو جزء من الكواكب السيارة، فالهلال اسم من أسماء القمر عندما يظهر للبشر صغيرا في أعينهم لأسباب تكلم عنها أصحاب الفن العلميين الفلكيين شارحين قوله تعالى {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} بمعنى أنه يسير في منازله بدقة لا تقف ولا تختلف قدر واحد في المائة من الثانية بمعنى أنها معدومة التوقف وهذه المنازل نحن نراها بأعيننا عندما يسمح اختفاء الشمس ليلا برؤيتها وفي النهار تحول الشمس بيننا وبين رؤية الموجود منها فوقنا وهذا الاختفاء لا يعني أنه غير موجود في سمائنا.
والقمر الذي هو أصل الهلال يسير معها بانتظام يظهر مع المنازل ويراه أي قطر من المسلمين فوقه عندما تختفي عنه الشمس ويختفي عند كل قطر تخفيه عنه الشمس.
فماذا على العلماء المسلمين خاصة وسلطاتهم عامة أن يفعلوه الآن لينسجم عملهم العلمي الإسلامي مع أوامر الله المتعلقة بهذا الكون الموضوع فوقهم كآية لا يختلف سيرها ولا نظامها ولا يتغير في أي زمان ولا مكان {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في تلك يسجون}.
فالعلماء يعلمون الآن علم اليقين تحديد المسافات في الزمان والمكان الذي تقطعها هذه الأفلاك السيارة وهذه المنازل تسير بين شرق الكرة الأرضية وغربها، فالشمس واحدة وتشرق قطعا من الشرق كما قال تعالى إنه يأتي بها من المشرق والقمر كذلك لأن رؤية إبراهيم عليه السلام لهما عند بزوغهما من جهة واحدة.
وهذا السير قطعا داخل 24 ساعة وهذا الزمن المحدد يدخل فيه الليل والنهار بمعنى أنه يستحيل أن تكون ليلة واحدة يختلف وجودها في أي قطر من الأقطار الإسلامية الآن إلا بقدر ساعات تقل وتكثر حسب تباعد المسافات ولذا لا يمكن أن تكون ليلة عند قطر هي ليلة أخرى عند قطر آخر فمثلا ليلة الخميس التي رأت فيها السعودية هلال ذي الحجة بعد ثلاث ساعات فقط وصلت أجواءنا نحن وأصبح يومها علينا يوم الخميس كما هو على السعودية قبلنا بثلاث ساعات فلكية.
وبناء على ذلك فإن مقولة لكل قطر رؤيته تتطاير حروفها هباءً عند البحث فيها ولكن يختلف وقت الصلاة وبداية صوم النهار ونهايته وهذا في القطر الواحد، ويستحيل وجود 24 ساعة بين قطرين مسلمين الآن.
والهلال الذي يترب على رؤيته كثير من العبادات شيء مادي مثل الليل والنهار لا يحيد عن حيزه مثل أي كائن.
فلم يبق إلا مناقشة عدم رؤية البعض له دون البعض على ضوء النصوص الشرعية.
وبما أنني لا أعرف العلم الشرعي فضلا أن تطمع نفسي إلى مناقشته مع أهل العلم الكنيفيين (إن صح هذا التعبير) فإني أقول أغرب مناقشة سمعتها من أهل العلم الحقيقيين في هذا المجال هو خطبة الجمعة الذي هو يوم وقوف الحجاج بعرفة في يومه، وفي اليوم التاسع من ذي الحجة عند عدم رؤية للجنة الموريتانية للأهلة والزمان هو يوم الجمعة عندنا وعند السعودية.
وهذه الخطبة صادرة من إمام المسجد الجامع في انواكشوط وسمعت أيضا في نفس السياق فتوى من العلامة محمد الحسن بن الددو.
وهذان الإمامان الأصوليان والفروعيان وفي كل ما يسمى علما في الشريعة الإسلامية مع احتفاظي لكل منهما بخصوصيته التي خصه الله بها لا شك أنهما يمثلان ما قاله المشارقة عن العلماء الشناقطة قالوا إن العالم الشنقيطي يعتبر مكتبة متنقلة.
ومن هنا فإني مع مساواتي لصفر مكعب مع هؤلاء العلماء الأجلاء الذين نفتخر بهما علما وورعا في كل مكان إلا أنني أتخذ من كتابة هذا موقف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه و سلم باتباع اجتهاده، أتخذه قدوة حيث سن للأمراء والعلماء سنة حسنة وهو الاستماع والقبول لكل ملاحظة ولو موجهة لنفسه هو أثناء كلامه وضد اجتهاده، وبناء على هذه اللجنة التي أجعلها أمام القلم مع الاحترام والتواضع لهذين الإمامين الذين ندع الله أن يجعلهما ويجعلنا معهما بمنه و كرمه داخل ياء إضافة العبودية لله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
فأبدأ أولا بمناقشة خطبة الإمام لأنه أتى فيها بكثير من الأدلة الأصولية والفرعية في قضية رؤية الهلال إلا أني لا أكتم سرا إذا قلت أنه لفت نظري فيها حدة اللهجة الاستنكارية التي خرجت بها الخطبة على الأثير والتي أثرت مجرد نبرتها على كثير من الموطنين حتى صام يوم التاسع من ذي الحجة عند عدم رؤية اللجنة ويوم العيد عند أهل السعودية بدون أن يفحص الأدلة التي ساقها الإمام في الموضوع بل تصرف بمجرد حدة كلام الإمام في الخطبة، وهنا تكمن خطورة التقليد بدون دليل.
فإن حدة الكلام ليست من الأصول ولا من الفروع التي يرجع إليها في الأحكام، فالإمام باختصار قال إن هناك قولين أحدهما يوسع دائرة الرؤية حتى تعم ما يشبه في المسافات ما بين خرسان والأندلس، والآخر يضيقها حتى يجعل لكل بلد رؤيته، واستدل على هذين القولين بتفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) واستدل في الفروع بقول خليل: "وعم إن نقل بهما عنهما" فحدد هذا العموم ما لم يبعد جدا كخراسان من الأندلس.
ويفهم من إيراده لهذين القولين أن كل واحد منهما يمكن العمل به إلا أنه مال في الأخير إلى أن اللجنة الوطنية للأهلة يمكن أن يكون عدم رؤيتها وإصدار بيانها مرجعا للعمل بمقتضى عدم رؤية الهلال لأن خلاف ذلك يؤدي إلى تفرقة المسلمين في مكان واحد. - كما قال -.
وأنا أظن أن أصعب ما قاله ذلك الإمام في الخطبة ويمكن أن يؤدي ارتباكا للمستمع الذي يمكنه تحليل العبارات، هي قوله: حبذا لو اتفقت الرؤية بيننا وبين السعودية، بل وبين أقطار المسلمين لينتهي هذا الخلاف.
والملاحظة على هذه الخطبة كما يلي:
أولا: أن الإمام لم يسم هذا اليوم إلا بقوله يوم عرفة ولم يقل يوم التاسع من ذي الحجة عندنا، وسيادته يعلم أن سبب تسميته عرفة هو الوقوف به، وكثرة الأحاديث التي تذكر ما في هذه الوقفة من الخير الكثير وحضور الملائكة فوق جبل عرفة مع الحجاج واستجابة الدعاء إلى أخر ذلك لا مجرد التسمية دون الوقوف.
ثانيا: قال إن بعض العلماء فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته..) إلى أخر الحديث إنه يعني الحاضرين معه دون المسلمين الآخرين.
وهذا يعني أنه من لم يره بعينه لا يصدق غيره، وهذا يبطل قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب إذا لم يرد في نص الخطاب هذا الخصوص".
فخطاب النبي صلى الله عليه و سلم بقوله: (صوموا..) لرؤيته إلى أخر الحديث موجه بالدرجة الأولى إلى جميع المسلمين الموجودين فوق الأرض آنذاك وهم فوق جزيرة العرب، ويمتد هذا الخطاب العمومي إلى إخوانه الذين لم يأتوا بعد.
أما حديث كريب وعدم عمل بن عباس برؤية أهل الشام، وصوم معاوية، فالظاهر أنه اجتهاد من ابن عباس لأنه سينقضه الإمام لاحقا باستدلاله بالحكم الفرعي في قول خليل: (وعم إن نقل بهما) جميع أقطار المسلمين ما لم يبعد جدا كخراسان من الأندلس، فالعراق لها حدود مع الجزيرة العربية مع أن أهل ذلك الزمان كانوا لا يعرفون إلا البعد الأرضي في المسافات، ولا يعرفون القرب في السير الفلكي في السموات، وكل العقول البشرية مخاطبة بما أنار الله لها من العلم في زمنها {سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.
وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو الفرق بين رؤية عدول أهل فصالة بموريتانيا وعدول سفارة موريتانيا في السعودية إذا أخبروا برؤيته، ففصالة بينها وانواكشوط 1160 كلم أرضية، و40 دقيقة فلكية، والسعودية بينها وانواكشوط ثلاث ساعات فلكية، ونحو ثلاثة أو أربعة ألاف أرضية، فإذا رأته فصالة، ولم تره انواكشوط، فذلك يشبه رؤية السعودية دون رؤيتنا هنا له، وهذا يتفق مع قول خليل: "ورؤيته نهارا للقابلة"، ففصال يمكن أن يروه بعد غروب الشمس عندهم ولكنها تكون بالنسبة لنا رؤية نهارية لأن النهار مازال علينا منه 40 دقيقة.
ثالثا: صعب علينا فهم معنى قول الإمام يا حبذا إلى أخر كلامه الأتي:
وصعوبة فهم قول الإمام في خطبته: "يا حبذا لو اتحدت الرؤية"، فإن السامع سوف يظن حينئذ أن الوجوب والحرمة أصبحا تابعين لمزاج الدول إن اتفقوا اتحد الخطاب من الله للمسلمين، وإن اختلفوا يختلف خطاب الله للمسلمين، مع أن موضوع الخطاب في الرؤية يتعلق بشيء مادي في السماء لا يتعلق وجوده ولا عدمه بسلطة الحاكم.
رابعا: إن المتأمل في الخطبة لا يرى فيها أي منزع للإمام يشير فيه إلى قضية ما يقوله الفلكيون باستحالة أن يرى في سماء إحدى الدول ولا يكون في سماء الدول الأخرى في وقته المناسب لسيره، فهم يقولون إنه يمكن أن تحجب رؤيته في مكان ويرى في مكان آخر، وهذا يكون في الدولة الواحدة كما هو المشاهد في الكسوف، فكان على الإمام وهو المتبحر في جميع العلوم، والمطلع على ما يفرزه العلم الحديث من إفرازات ينتفع بها المسلمون، وتزيد العلماء علما، فلم يتطرق هو إلى ذلك.
خامسا: عندما نعود إلى عمل اللجنة فسنلاحظ أنه لا العلماء في الدولة ولا السلطة تهتم بأسلوب إجراءات اللجنة لتثبت أو تنفي الرؤية كما تفعل في رؤية هلال رمضان وهلال سؤال.
أما الأشهر الأخرى فلا نسمع إلا بعد أيام من رأس الشهر أنه يبدأ بعد ثلاثين يوما من سابقه، وهذا نعلم جميعا أنه تكرر كثيرا.
فكان على العلماء والسلطة أن يلفت تكرر هذا نظرهم حتى لا تكون اللجنة تعد ممن "لا اعتناء له بغير رمضان وشوال"، فتكون رؤية السعودية على الأقل تعدل رؤية العدل الواحد.
وعلى كل حال فإن هذا مجرد تنبيه على شيء مهم تكرر عدة مرات، ويتعلق بالوجوب والحرمة والسنة والمندوب.
وحكم اللجنة بالثبوت وعدمه لا يغير طلب الله لأداء الحكم الشرعي المنوط بشيء مادي يمكن حصوله بالرؤية، فقول خليل: "لا بمنجم" أي مع عدم أي رؤية فإذا حصلت رؤية يعود الحكم فيها للنصوص الأخرى.
فالحكم يرفع الخلاف إلا أنه لا يحل الحرام، أي يرفع الخلاف بين المتخاصمين، وهنا لا مخاصمة فيه، بل فيه أحكام فيها الوجوب والحرمة، ولا يرفع الحكم الواقع المعقول.
أما فتوى العلامة محمد الحسن بن الددو فهو مكتوب في بعض المواقع هكذا: "سئل العلامة محمد الحسن بن الددو حفظه الله عن صوم يوم السبت في شهر ذي الحجة هذا العام؟
فأجاب أن يوم السبت هذا هو يوم عيد عند دول المشرق، ويوم عرفة عند أهل المغرب، ولا مانع من صومه عند دول المغرب لأن الرؤية عندهم ثبتت بحكم قضائي، وحكم القاضي يرفع الخلاف".
فإذا كان هذا الجواب من العلامة الددو جواب دبلوماسي موجه بكلام ناحية من الوطن الموريتاني، فإن العلماء لا يقبل منهم ذلك لأنهم موقعون عن الله وينوبون عن النبي صلى الله عليه و سلم في وجوب التبيين، والنبي صلى الله عليه و سلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقته.
وإذا كان هذا الجواب هو الحكم عنده، فإنه أولا سمي يوم السبت بيوم عرفة، والأسماء المشتقة من الأسباب تزول أسماؤها بزوال سببها، ويوم السبت لا أحد فوق جبل عرفة، وهو يوم واحد في السنة مثل ليلة القدر.
وعلى كل حال فمعلوم أن الشيخ الددو له اليد الطول في العلم بل إن جميع جوارحه ولله الحمد كذلك في كل العلوم، وأعيذه من كل حاسد إذا حسد، فكان عليه أن يحسم حكم الله في موضوع شواهده مادية في السماء، ولا يعود فيه إلى اجتهاد أهل الفروع في زمن لا يعرفون فيه ما وراء أقطارهم في الأرض، و يصدرون الفتاوى حسب معرفتهم آنذاك.
وأخيرا لم يبق لنا إلا أن نقول: اللهم بين لنا في الهلال الحكم الشافي الذي يرضيك الأخذ به في جميع أقطار المسلمين حتى نفعل الوجوب والسنة و المندوب في وقته، ونترك الحرام والمكروه وخلاف الأولى في كل وقت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
0 التعليقات: