لاقتراحاتكم ومشاركاتكم يرجى مراسلتنا على العنوان التالي:alegcom@hotmail.com

السبت، 18 يونيو 2011

ذكرى الترحم على صديقي الندى


بقلم محمدو ولد البار
بمناسبة الذكري الأليمة العاشرة لرحيل أخينا وصديقنا الحميم عن هذه الدنيا إلى مقعده صدق عند مليك مقتدر بإذن الله، فإني أكنب هذه الكلمة الموجزة نزولا عند رغبة من فاتته فصول حياة ذلك الرجل التي خصه الله بها رحمة منه وبركات والله يختص برحمته من يشاء والله ذوا الفضل العظيم.

وأقول بادئ ذي بدء إني ما كنت أبدا عازما أن أكتب عن ذلك الرجل الخاص بالنسبة لي لعدة أسباب.

أولا: أنه هو رحمة الله عليه كنت أحسبه جزءا مني قضى نحبه وعليه بركة سيرة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأن الجزء الآخر ما زال ينتظر، ولو كان الجزء الذي اختاره الله إليه أولا هو الجزء الذي ملأه الله علما وحلما وجعله مخزنا لخير الدنيا والآخرة، ولكن رغم تلك المميزات كلها ما كنت أراه في الدنيا إلا وخيل إلي أني رأيت ذاتي متقمصة ذاته فرحاً وسروراً وإكباراً.

ثانيا : إن قضية الكتابة عن أهل الدنيا لا تشبه الكتابة عن من وصل إلى أول منزل من منازل الآخرة، فالحي في الدنيا والميت في البرزخ عندهما رابط واضح يربط بينهما وهما القرآن والحديث الصحيح، فالقرآن هو الصفحة التي نقرأ فيها واقعنا المعيش وفي نفس الوقت نقرأ فيها واقع أهل البرزخ الموجودين فيه بل نقرأ في القرآن والسنة واقع أهل الآخرة بحيث يستوي في عقيدتنا صدق ما نشاهده في حياتنا كما أورده الله بالتفصيل وما فيه أهل البرزخ وما سنكون فيه جميعا يوم القيامة.

وصاحبنا ـ رحمة الله عليه ـ نتيقن أنه من فضل الله قد وجد ساعة وفاته قدم صدق عند ربه كما قال تعالى (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم). وهو الآن في روضة من رياض الجنة عند أول ليلة فقدنا فيها كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن القبر روضة من رياض الجنة] كما هو رجاؤنا من رب رحيم.

ومن المعلوم أن ذرة واحدة من رياض الجنة هي أعلى وأغلي من ملء الأرض ذهبا، وأحسن من أجمل كلام أهل الدنيا مهما اجتهدوا في ذكر ما يعرفون عن من وفقه الله إلى ما يرضي الله، فمثلا إذا أشدنا نحن أهل الدنيا بمآثر أي شخص كان من فضل الله عليه موفقا في القدوم إلى الله بخير الدنيا والآخرة طبقا لأوامر خالقه كما هي، فيكون كمن وقف ونظر إلى الشمس قائلا لها: ما أعلى سمو مكانتك، وما أحسن ضياءك، وما أكثر ما يتركه شعاؤك من نفع لأهل الدنيا، ونرجو أن يكون كلامنا في صاحبنا من هذا القبيل.

فصاحبنا ولله الحمد هداه الله كما نعلم جميعا أن تتحقق في حياته محاولته أن يكون خلقه القرآن، فما من آية تحث على الخير وتبعد عن الشر إلا وحاول أن يتمثلها في حياته، فكم امتثل قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، وكم امتثل قوله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم من سيئاتكموكم امتثل قوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين والجاري ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل)، وبكلمة واحدة وأنا صديقه الحميم لا أعلم خيرا ذكره الله إلا وأحب أن يفعله طبقا لأوامر الله، ولا شرا إلا وابتعد عنه مرضاة لله ومخافة منه، وقد وهبه الله حالة نفسية خلقية واسعة الشعاع أعانه الله بها على ذلك كله.

وبما أني لا أستطيع في عدة أسفار أن أكتب حياتي معه لشمولها لجميع الحركات والسكنات المختلفة فإني سوف أكتب نبذة قليلة جدا من تلك الذكريات الممزوجة قولا وفعلا بحياتنا المختلطة.

فأنا وهو ميلادنا في سنة واحدة وبيننا عدة أشهر لا أدري أينا الأول في الوجود ونشأنا في شباب واحد وقرأنا القرآن أولا على رجل واحد وهو رجل القرآن قلبا وقالبا محمود لله بن سيديا جزاه الله عنا خيرا بأحسن الجزاء وعندما بلغنا الحلم تاقت أنفسنا إلى المحظرة خارج الأهل.

وبما أني أنا لم أعقل على والدتي وتربيت تحت رعاية والدي رحمه الله وجزاه الله عني خيرا في تلك الرعاية فقد كانت والدة الندى رحمها الله تحسبني توأما له وتقول لي إذا ذهبت أنت ( والكوري) إلى المحظرة خارج البلد فسوف لا ينقصكم شيئا، وفعلا نفذت ما قالت.

وأصبحت أنا وهو مثل الجملة لا معنى لجزء منها دون الآخر فكنا كما يقال إن يقم زيد يقم عمرو، وذهبت هذه الجملة أولا إلى محظرة أهل المنجي وقضينا فيما ما قضينا ثم ذهبنا إلى محظرة أهل أحمد فال في السنة الثانية بعد الاستقلال وقبل هاتين المحظرتين سافرنا سفرا ينبئ عن استعدادنا آنذاك لتحمل الأسفار الشاقة، فقد كان هو حينئذ انتهي من حفظ القرآن وتجويده وكتابة رسمه وضبطه ولم يبق له إلا أخذ الإجازة عليه، فقررنا أن نذهب إلى خارج الأهل ليأخذ هو الإجازة من أشياخ آخرين، وسافرنا على أرجلنا من غير تنعل حتى وصلنا إلى "أدروات" في جنوب قرية شكار ومكثنا عدة أيام عند شيخ محظرة "أدروات" وفاجأنا كثرة انشغاله عن مهمتنا مع أن الندى كتب عنده خمسة أحزاب بالرسم والضبط وتلوين ما يحتاج لذلك، فذهبنا عنه إلى قرية مال وفيها محمد عبد الله بن عبد الله ومكثنا عنده عدة أيام حتى امتحنه هو في جميع ما يسبق الإجازة من تجويد ورسم وضبط وإتقان كتاب ابن بري الجامع لطريقة الشيخين قالون وورش على قراءة الإمام نافع وكتب له بعد ذلك الإجازة، ونتذكر أننا ذهبنا منتصف الليل من ضواحي قرية مال وما زلنا راجلين غير متنعلين، ولم تظهر علينا الشمس من نفس صباح تلك الليلة حتى دخلنا على الوالد سيد بألاك عندما فتح حانوته بعد صلاة الصبح وقطعنا في تلك الليلة أكثر من  40 كيلومتر على حالتنا تلك.

وفي سنة 1964 شاركنا في امتحان شهادة الكفاءة في أول امتحان عربي نظمته الوزارة في نواكشوط لاكتتاب معلمين للغة العربية ونجحنا في ذلك الامتحان، إلا أنه بعد ذلك الامتحان انفصلت هذه الجملة لأول مرة، ففضلتها ذهبت إلى الخارج تبحث عن دراسة عصرية أما عمدة الجملة فأصبحت بنفسها جملة مفيدة كاملة نافعة وتوظفت في التعليم كمعلم مساعد، وما إن استلم محمد المصطفي بن الندى راتبه المتواضع حتى خطط لما يلي:

أولا : نظر إلى والده فإذا هو شغوف بالعبادة فأفرغه لها وكان يقوم الليل ويصوم النهار من غير أن يهتم بغير هذين السلوكين، وهنا وقعت له بشرى على كل أحد أن يغبط "فيها الندى" وهي أن والده امتلأ منه إعجابا وتقديرا ورضي، فهنيئا للندى في حياته وبعد وفاته بذلك.

ثانيا : نظر إلي جميع فروع أقاربه فشرق فيهم وغرب وعم وخص متبعا سلم تلك القرابة بالرعاية حتى الخدم الذين لا مردودية لهم أحاطهم برعايته.

ثالثا : نظر إلى حالة قرية أهله التي يسكن فيها فإذا أهلها يتغاضون في نفايات السياسة السامة أو يتعاوون فيها فغض النظر عن ما هم فيه واشتغل في إصلاح البني التحتية للقرية من توسعة للمسجد وجميع ما يتصل بذلك من أفرشة ومكبرات صوت أي جميع مصالح المسجد وكذلك محاولة إنشاء مزارع خضروات يعم نفعها الجميع، وأهم من ذلك اشتغاله الدائم بإصلاح الحنفية التي اختلف أهل السياسة على إدارتها واتفق هو مع نفسه على الاهتمام على إصلاحها بغض النظر عن سياسة أهلها.

رابعا: كانت تلك السنوات عجافا وكان هو عنده قريحة متنورة في علاج الأمراض المنتشرة في المنطقة وكان يغذي تلك القريحة بالإخلاص وحب الخير للجميع ووسعها هو بتعلم مهنة الصحة لا سيما الضروري المحتاج له منها، وعندئذ أصبح سكان البادية من كل أنواع البشر يتوافدون على قرية أغشوركيت فحيواناتهم تذهب إلى البئر للشراب وأما أشخاصهم فيذهبون إلى أهل الندى للدواء والغذاء.

وبعد تلك المدة العصيبة التي اجتازها هو بنجاح مع علو الهمة وقلة الراتب حولته مهنته التعليمية إلى عدة أماكن مثل ضواحي مكطع لحجار وتكانت وغير ذلك من الأماكن ولكن بر الندى وخدمته لكل من لقيه سبب مشكلة لسكان تلك الأماكن فعندما يحول عنهم يظنون أنه حول عنهم ابنهم وطبيبهم ومرشدهم.

وأتذكر أني عندما عدت من الخارج ذهب بي إلى الأماكن التي عمل عند أهلها فكل ما حضرنا إلى القرية يخيل إلي أننا جئنا إلى أغشوركيت بعد غياب طويل بل كأننا جئنا إلى منزل أهل الندى فالقرية بشيبها وشبابها ونسائها كأنهم يحتفلون بقدوم ابنهم بعد غياب استوحشوا فيه هذا الرجل الوالد الطبيب المتخصص في علم النفس والاجتماع.

وأتذكر كذلك أنه من طرف دوائه وعبقرية قريحته وذكائه أننا وصلنا إلى منزل من معارفه القديمة ووجدنا عندهم بنتا لا يقر لها قرار من وجع البطن وهذا في: (تامورت انعاج، انبيك) وأهل البنت لا يعرفون كيف يفعلون لابنتهم وهي في ذلك الألم الحاد فجس هو مكان الوجع وأمرها أن تنهض معه وتجري بجنبه ذهابا وإيابا ولمسافة 100م ونحن جميعا ننظر إلى هذا الدواء وما رجعا إلينا في الشوط الرابع إلا والبنت تكاد تسقط من كثرة الضحك وكأنها نشطت من عقال ولم يبق لدائها أي أثر.

وعندما سألناه عن المرض فقال: إن عشاءها البارحة تجمد في بطنها ربما لسرعة نومها به وعندما تحركت حركة سريعة ذاب الطعام وتفرق في بطنها وانتهي كل شيء.

وبعد تلك الفترة الذهبية من عمل الندى لكثرة انتفاع الناس بخلقه واجتماعيته وعطفه على الفقراء والمساكين وكل فتراته كانت ذهبية انتقل إلى الثقافة وكأنها كانت تنتظره هي وأهلها بفارغ الصبر لأنه وجد فيها هويته وهمته العالية وأبدع فيها ما أبدع وربط فيها بحبل المودة والإعجاب العلاقات مع كل من اجتمع معه ولو ساعة واحدة ولا أستطيع تتبع ذلك وكل الناس يعرف ظاهر ذلك أما باطنه فلا يعرف سره إلا الله وأنا لا أعرف شخصا مدح بأحسن العبارات هو وأسرته وقبيلته لأجل معرفته هو فقط إلا محمد المصطفي بن الندي.

والذي نعرفه أيضا ويعرفه الجميع أنه أجر منزلا خيريا في وسط المدينة يأوي إليه كل محتاج من الأهل والجيران للغذاء والدواء وربما للسكن للتعليم حتى النهاية.

وهذه النقطة الخيرية مفتوحة 24 ساعة على 24 ساعة والكل يأتيه ما يناسبه من قرى الضيف أو دواء أو سكن حتى لقي الله وهو يدير تلك المؤسسة الخيرية أي منزله الذي توفي فيه عليه رحمة من الله وإحسانه ومغفرته.

وعلى كل حال فإن محمد المصطفى بن الندى شخصية نادرة في جميع أبعادها أعطاها الله لأهلنا في أغشوركيت من غير أن يترك لهم مثيل بعدها بل أعطى نفس الشخصية المثالية ذات الأبعاد الواسعة لكل من عرفه ولو عابر سبيل.

وبما أن الندى لم يشتغل في جمع الدنيا ليرثها أهل الفروض أولا ثم العصبة ثانيا فإنه ترك ما يختص بإرثه العصبة وهو الحلم و الأناة والإباء وحب الخير للجميع والعمل بما ينفع الناس كل الناس .

وأنا أرجو من الله لأبنائه وبناته حفظهم الله وأعانهم إرث عصبة لكل هذه الخصائص المميزة وسعة السمعة الفريدة وترك لسان الصدق في الآخرين.

وأختم هذه الكلمة الموجزة عن جزئي في أول الشباب وعن الشخصية المثالية في موريتانيا بذكر نوع عبادته في قالب عقيدته، فمن المعروف أننا تربينا جميعا وبجانبنا الأهل كل واحد منهم يتعبد الله على طريق اختارها لنفسه من الطرق المحيطة بنا.

أما محمد المصطفى بن الندى فقد عامل أهل هذه الطرق ومشايخها بالاحترام الكامل الذي يستحقه كل حسب مكانته وشخصيته وما يستحق من الخصوصية، أما هو نفسه فقد اختار ملة أبينا إبراهيم عليه السلام للعبادة والعقيدة بلا واسطة كما أورد الله قول إبراهيم في قوله تعالى: (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم) حتى أتي الله بقلب سليم .

وفي الأخير سلام على الندى يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعث حيا.

1 التعليقات:

ان خير من يكتب العارف القدير , وخير من يكتب عن الندى هو ترب صباه ورفيق دربه وخدن كهولته الاخ الكبير محمدو ولد البار , فهو من الثلاثة الذين ارتبطوا في ذاكرة طفولتي بالندى رحمه الله..وكلا الرجلين يذكر بالاخر..وهو لذا خال لم يلده لي جد ولا جدة...لذلك لن يقرا الناس قلما اروى لحقيقة , وعبارة انقل لخليقة ودقيقة مثل قلمه وعبارته...طبعا لابد ان يظهر في اسلوب محمدو وهو يكتب عن الندى شيء من العطف وقد اعتاد الناس ان يكون في حديث العطف شيء من المبالغة..لكن الندى حالة خاصة فحديث العطف فيه حق وصدق....ونقول للاخ محمدو : هل من مزيد؟فوفاضكم املأ واكبر...

إعلان