مدينة بوكي عروس النهر المنسية

يشكل هذا الزورق مصدر الرزق الوحيد لصاحبه الذي يزاول العمل
 فيه من الثامنة صباحا إلى الثامنة مساء

تحمل ولاية "لبراكنه" اسم الأسرة الحسانية التي أسست بها إمارة في القرن التاسع عشر الميلادي.
أما بوكي فهي واحدة من خمس مقاطعات تضمها الولاية (ألاك، مكطع لحجار، امباني، بابابى، بوكي) وبوكي ذات خصوصية من بين المقاطعات فهي الأقرب إلى نهر السنغال ومن ثم فقد شكلت معبرا مهما للمبعدين الموريتانيين في رحلتي العودة والإبعاد.
تقع مدينة بوكي على تل مرتفع قليلا محاذية للنهر الذي يعني الكثير لسكانها، والتجول في سكانا يعطيك انطباعا بأنك داخل مدينة موريتانية بامتياز .. لن تجد فرقا بين من تتحدث إليهم الكل يتحدثون لغة واحدة قوامها الترحيب بالوافد وبسط الرفد والزاد.. 
مدينة بوكي تنام في أولى ساعات الليل وتصحو باكرا على وقع أصوات عربات تجرها الخيول هي أهم وسائل النقل بالمدينة المتسعة نسبيا والتي تتباعد مراكزهاتباعدا كبيرا.
التجول في شوارع مدينة بوكي يشعر بسكينة لا يخترقها سوى أزيز السيارات الذي لا يهدأ لكون المدينة معبرا لواحدة من أكبر ولايات موريتانيا فهي بوابة ولاية غورغول إضافة إلى الجزء الجنوبي من ولاية لبراكنه.

محمد الأمين ومحمد مجرد نموذج لأطفال بوكي الذين
 التقينا منهم العشرات وكان عندهم نفس التصورات

كون مدينة بوكي معبرا جعل وجود غرباء فيها أمرا غير ملفت للانتباه، كما سهل التعامل مع أهلها، تلقى الفتاة والمرأة المسنة والطفل يعاملونك بنفس الطريقة تقريبا كل يدعوك للنزول وكل يعرض الضيافة .. كانت الساعة حوالي الحادية عشرة من مساء الجمعة وهو وقت متأخر نسبيا بالنسبة لمدينة بوكي التي تنهي يومها بسرعة . محمد الأمين ومحمد مراهقان يسيران إلى جانب الطريق الرئيس عندما اقتربت سلما بأدب وأخفى محمد سيجارة كانت متقدة في يده ردا على الأسئلة الكثيرة التي طرحتها وكأنهما متعودان على التعامل مع الصحافة. محمد ليس لديه أصدقاء من الجيران الزنوج الموريتانيين لكنه أمر يشعره بخجل (أو بلغة محمد إكسح) لكونه "تقصيرا لا يليق" أما محمد الامين فهو يعتبر الصداقة مسألة طبيعية وهو على استعداد عندما يكبر أن يتزوج من أي فتاة يرضاها "حنى ولو كانت زنجية، ولن يجد مشكلة مع أبويه لأنهما يعتبران الزنوج إخوة للبيظان"

خديجة ورفيقتها تتحدثان الحسانية بطلاقة أبنائها وتصران على أن
 لا فرق بينهما وصديقاتهما في المدرسة من المجموعة العربية

عندما تسأل "كادياتا" عن الزواج من غير بني جلدتها تضحك بملء فيها وتستغرب من سؤال لم تطرحه على نفسها من قبل, فليس هناك شيء يعيق التعايش .. تعلمت اللهجة الحسانية من بنات الجيران "وهم كذلك تعلموا منا البولارية" تقول كادياتا، "بنت خالتي متزوجة من أحد أبناء المدينة ينتمي للمجموعة العربية وليس لدينا مشكلة فأبناؤها أبناؤنا كما هم أبناء أهل زوجها".
تمارس في مدينة بوكي ألوان من النشاط الاقتصادي من التجارة إلى الرعي، لكن عنوان الحركة في مدينة شاطئية تقع في سهول شمامه يبقى هو الزراعة، فهي تتربع على عرش المهن التي يمارسها السكان من دون منافس تقريبا، يشرح كان علي صيدو هذه القضية قائلا: "هناك مجموعة من المهن كان يمارسها الأجداد ولم تعد مربحة اليوم بفعل سرعة إيقاع الحياة وتغير أنماط حياة كثير من الناس لكن الزراعة بقيت هي الثابت الوحيد في حياة السكان بحكم أن تغير العادات الغذائية لم يقص منتوجاتها بشكل نهائي وظلت محتمية بصلاحيتها الكبيرة للتكيف مع المتغيرات، كما ظلت تجد في الساعين للتمسك بثوب الأصالة ملاذا من رياح العولمة".

رديف الأرض في مدينة بوكي هو النهر الذي لا يكاد يتم نشاط في انفصال كامل عنه، وماؤه عصب حياة حقيقي لكل القاطنين في المدينة، رغم كل صيحات التحذير الطبية من خطر المياه الملوثة على الحياة الصحية للمواطنين، إضافة إلى بعده الرمزي الذي ترتبط به الكثير من الذكريات والأساطير.. علاوة على المهام التقليدية المتمثلة في فيض مياه النهر الذي يسقي مآت الهكتارات من الزراعة يمثل النهر مصدر دخل مهما لكثيرين من بينهم على با الذي يرمي يجلس لأكثر من ساعتين يوميا بانتظار ما يجود به النهر .. يقذف "با" صنارته من دون طعم أحيانا، ويرمي معها حلما بغذاء أطفاله الستة لمدة يوم كامل، ويظل يرقبها في الأفق كمن يرقب سحابة تحمل ماء لكنه غير واثق تماما من الجهة التي ستغدق عليها المطر في نهاية المطاف. “قد يحدث أحيانا أن أجلس هنا لأكثر من ثلاث ساعات دون أن أعود بسمكة واحدة لكني أحيانا أخرى أعود بعدة سمكات في أقل من ساعة واحدة.

عربات الخيول واحدة من أهم وسائل النقل والحراك الاقتصادي
 في المدينة لدورها في نقل الأشخاص والبضائع 

عند الركوب في أحد الزوارق الرابضة على الضفتين تتعرف على مهنة جديدة مرتبطة ارتباطا كليا بالنهر والعيش عليه كما هي مرتبطة بأحداث كبرى كإبعاد وعودة اللاجئين الموريتانيين إلى السنغال التي هي بالنسبة لسكان بوكي أكثر من مجرد جارة .. تلك هي مهنة النقل البحري عبر الزوارق الصغيرة التي تتحرك بالمجداف ، وبها يتحول النهر أيضا إلى جسر تواصل بين شعبين فرقت بينهما سياسة المستعمر رغم أن كل أواصر الوحدة قائمة بينهما.
فاطمة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تقول "أنا لا أعرف الكثير عما تسأل عنه النهر أخرج إليه بشكل شبه يومي لغسل ثيابي إخوتي الصغار أمي تأمرني بذلك دائما وأنا أنفذ أبي يتحدث عن الكثير حول النهر لكني لا أعرف مثل هذه الأشياء الكبار فقط عندنا يعررفون".

تصنيف : الأخبار