لاقتراحاتكم ومشاركاتكم يرجى مراسلتنا على العنوان التالي:alegcom@hotmail.com

السبت، 4 يونيو 2011

في ذكراه العاشرة... الندى لا زال في القلب


بقلم المهندس: إبراهيم ولد البار
قبل عشر سنوات فارقنا الوالد الحنون، والأستاذ المربي، والطبيب الفطن، والداعية الحكيم، والمعيل السخي، والعالم الجليل، والمؤرخ الخبير: محمد المصطفى ولد الندى، وسيظن من رأى هذه الأوصاف أنها ثناء ولدٍ مكلوم في فراق وذكرى والد عزيز، ولكن من يعرف الفقيد - وهم كثر ولله الحمد - يعلم في الفقيد أضعاف هذه الخصال بل السجايا، ولست هنا في صدد ذكر مآثر "الندى" في ذكرى رحيله العاشرة بقدر ما أريد استثارة زملائه وتلامذته وأصدقائه بتطفلي على ما لا أحسن ويحسنون، فيكتبوا لنا عن تلك الذكريات ويجلوا للقراء تلك المآثر للقدوة والعبرة والوفاء.

فقد فارقنا رحمه الله تعالى ونحن في أمس الحاجة إلى علمه وتوجيهه وفهمه و"هداياه" ولم أدرك حجم المصيبة فيه إلا بعد رحيله - كغيري من زملائي –لصغر سننا وقلة فهمنا، ولكنه ما إن توفي رحمه الله تعالى حتى بدأت العجائز والأمهات والشيوخ يقصون علينا مآثر الندى وتاريخه فضلا عن ما سمعنا بعد ذلك من بعض طلابه وزملائه في نواكشوط،  الأمر الذي جعلنا نتمنى –ولات حين مناص- لو عاد إلينا ولم ليوم واحد لنقدره حق قدره، ونبكي على فراقه بقدر المصيبة فيه وصدق القائل:

الناس لا ينصفون الحيّ بينهم *** حتى إذا ما توارى عنهم ندموا

فقد كان الندى طبيب القرية التقليدي، وطبيبها الحديث، وكان يعلم النساء والأطفال والشيوخ في العطل الأسبوعية، وكانت مكتبته الكبيرة هي الوحيدة في القرية ومصدر الكتب الحديثة والقديمة فتجد فيها التفاسير والشروح  والفقه والحديث والسيرة النبوية  وكتب الطب والفلسفة وحتى المجلات التي تصدر في  بعض الأقطار الإسلامية تجدها في المكتبة رغم ضعف المواصلات حينئذ  فتجد فيها عدد "المجتمع الكويتية" قبل أن يصدر تاليه، وكان تصحيح عقائد المجتمع وتثقيفه صحيا وعلميا يشغل باله ويهلك فيه يومه وليله ويشهد له المجتمع بحكمة الأسلوب والصبر على التغيير، وقد حباني الله تعالى بصداقته الحميمية لوالدي ووالدتي حفظهما الله تعالى، وقد حدثتني الوالدة - أطال الله بقاءها - بإسهاب عن جهوده الإصلاحية في المجتمع من نهاية الستينات وحتى وفاته رحمه الله، وقد ذكرت لي من أمثلة حكمته وكياسته في النصيحة والتوجيه أنها كانت كباقي نساء القرية -إذ ذاك- إذا فجأهن أمر أو ذعرن من حادث نادين أحد شيوخ الصوفية في المنطقة، وفي نهاية السبعينات كان الندى معها وخافت على أحد الأطفال وكالعادة استغاثت بالشيخ، قالت فتبسم الندى في هدوء وقال لي "الشيخ مسكين إكد إعود راكد" ولم يزدها على ذلك، تضيف أنها لم تستغث بعدها بغير الله فجزاه الله عنها خيرا.

 ومن طريف ما ذكرت لي في تاريخه الإصلاحي أنه رحمه الله تعالى أنشأ مكتبة في جامع  أغشوركيت  ومن ضمن الكتب التي جعل فيها "فتاوي ابن تيمية رحمه الله" وهو ما لم يرق لبعض الشيوخ لكون "شيخ الإسلام" ليس مالكيّ المذهب وله آراء لا ينبغي أن تقرأ أحرى أن تكون في المسجد! وارتفعت الأصوات في المسجد  حول القضية والشيوخ يريدون إخراج الكتب، وكان أحد البسطاء من أهل القرية حاضرا وخرج قبل بقية الرجال، فسألته إحدى النساء كعادتهن في استجلاء ما يدور في المسجد: لماذا ارتفعت أصوات الرجال في المسجد، فأجابها ببراءة: ذاك الندى جابْ اكتوبْ "مسيلة الكذاب" وهل للمسيد لاهِ يحركوهم"! فالقصة تجلي الجهد الإصلاحي والتنويري الذي كان يقوم به الندى رحمه الله وحجم التحدي الذي كان يواجه في بيئة دينية تتوجس من الوافد وتقاومه.

وقد كان الندى رحمه الله تعالى منفقا في السر والعلن وقد اكتشف بعد وفاته أنه وفر لباس العيد لسنوات طويلة لأطفال قرى من "آدوابه"شمال ألاك  ولم يكتشف ذلك إلا بعد انقطاعه بوفاة الندى.

وقد كان من مؤسسي العمل الإسلامي في الوطن ومن رجالات الدعوة والفكر والأدب ومن مؤسسي الجمعية الثقافية، وبفضل عمله كمدير لقسم المخطوطات في وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي إلى حين وفاته فقد مكنه ذلك من وضع يده على أغلب المخطوطات الوطنية القديمة مما جعله موسوعة "إليكترونية" في جميع شؤون الوطن: جغرافيا، وقبائل، وأنساب، وتاريخ...

وقد استضافته التلفزة الوطنية والإذاعة في عدة مواضيع منها الثقافي والتاريخي والفقهي - السهرات الرمضانية - وكانت تنشر له عدة مقالات في جريدة الشعب وكان آخر ظهور إعلامي له  حلقة رائعة من برنامج: بيت الساهرين - ذائع الصيت- كان ضيفا عليها ليلة الخميس الأخيرة في حياته، وأذكر أني استمعت إلى الحلقة مع الوالد حفظه الله تعالى وكان الصحفي الشهير: السني عبداوة يجول مع الندى في مرابع الأدب الشنقيطي وتاريخه ولا يطرق بابا من أبوابه إلا وجد الندى خريتا فيه رواية وشرحا واستنباطا وتنكيتا، وفي اليوم الموالي اتصل عليه الوالد ليخبره بسروره بالحلقة واستمتاعه بها وظلا يتحدثان في الهاتف وكنت حريصا على سماع كلام الندى مع الوالد - كأني أعلم أنه آخر سماع لصوته- بعدها بيومين كان ذلك اليوم المشؤوم، فقد استيقظ الندى من القيلولة التي كان يحرص عليها وقد أذن لصلاة الظهر فقام مسرعا يتهيأ للصلاة كعادته ولكنه سقط وهو يحمل وَضوءه وفارق الحياة قبل أن يصل إلى المستشفى رحمه الله رحمة واسعة وقد دفن في المقبرة التي أسسها في قرية أغشوركيت في ليلة مظلمة على أهل القرية مضيئة في قبره إن شاء الله وسأختم بثلاث قصص فيها شيء من الغرابة.

الأولى: أن أخي وصديقي أحمد ولد الندى – نجل الندى - كان يجلس مع أصدقائه قبل وصول جثمان الندى بقليل – ولم تكن الهواتف النقالة موجودة إذ ذاك - فجعل أحمدو يتململ ويضع يده على قلبه، وعند ما سأله زملاءه ما بك؟ قال إني أشمّ رائحة الموت وكررها مرارا ولم تمض دقائق حتى وصلت الجنازة.
الثانية: أن والدي: محمدو ولد البار حفظه الله- وكان صديقا حميما للندى وقد جلس يتوضأ لصلاة الظهر في ظل حائط المنزل في سيلبابي فانشق أمام وجهه ما يشبه شاشة التلفاز الكبير وجلس صحفي يقرأ تعزية من وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي في وفاة الأستاذ: محمد المصطفى ولد الندى، ونادى عليّ الوالد بسرعة لأتصل على هاتف ثابت في ألاك لأسأل صاحبه عن أحوال أهل "أغشوركيت" فوجدت عنده امرأة من أهلنا وأخبرتني بعد سؤالها أن لا جديد إلا ما أصاب أهل القرية من عظم المصيبة في وفاة الندى، وقد شاهد الوالد في نفس الليلة الصحفي وهو يقرأ التعزية في الندى على الهيئة التي رآه عليها وهو يتوضأ والفرق بينهما أن الأخيرة في تلفزتنا وليست في تلفاز في الهواء!.

والثالثة: أن أستاذا مصريا كان يدرّس في المعهد السعودي في نواكشوط  وتربطه زمالة وصداقة بالندى ولم يسمع بوفاته إلا بعد مضي وقت يقول الأستاذ: فلما سمعت بوفاته غمني ذلك وحزنت عليه وذهبت ضحى إلى أحد المساجد في العاصمة وصليت عليه صلاة الغائب ودعوت الله له كثيرا، وفي اليوم نفسه كان شيخ موريتاني  ورع يجلس في كوخ له في أحد أطراف العاصمة إذ استأذن عليه رجل حسن السمت وسلم عليه وقال أنا ادعى: محمد المصطفى ولد الندى وأريد منك أن تسلم لي على الأستاذ المصري فلان وتخبره أن صلاته ودعاءه قد وصلاني، يقول الشيخ الموريتاني: فقلت له إني لا أعرف هذا الأستاذ، فقال لي :إنه يدرّس الشاب الذي يسكن بجوارك وودعني وذهب، وعندها ذهب الشيخ الموريتاني إلى الشاب الذي يسكن بجواره وسأله هل يدرسك أستاذ مصري يدعى فلان؟-نسيتُ اسم الأستاذ- فأخبره أن نعم، فحمله الرسالة وأوصلها الشاب إلى أستاذه ورافقه إلى الشيخ الموريتاني في كوخه ليسمعها منه مباشرة وكانت مواصفات الشيخ الموريتاني للرجل الذي أتاه تتطابق مع مواصفات الندى رغم أنه لم يره في حياته.

رحم الله تعالى الندى رحمة واسعة، وأهيب بزملائه وطلابه أن يكتبوا لنا في ذكراه العاشرة عن حياته ومواقفه وأيامهم معه فهو تدوين لأعلام الأمة يتعين على من يملك أدواته.

1 التعليقات:

إن الندي فقيد أمة لكن للأسف كان في دولة لاتقدر إلا الفساد والمفسدين أما المتميزون من أمثال الندى فلامكان لهم فيها .........لقدكان عظيما بكل المعايير لم يجد التقير الذي يستحق
...بوركة أخي أبراهيم لقد ذكرت بعظيم حاضر في قلوبنا لكن لأسف لا يعلم الكثيرمن الناس مانعلم نحن عنه فلوعلموه لأنبروا للكتابة عن هذا القائد الملهم..........لكن عزاءنا أن له أبناء على دربه سائرين وأعني كل الإخوة السائرين على نهج الندى وفي مقدمتهم أبناؤه طبعا

إعلان