بقلم / يحي ولد كبد ووزير سابق |
ولعل طرح هذا السؤال ـ وإن بصيغ مختلفة ـ في
محافل عدة خلال الفترة الأخيرة، يجعله أكثر إلحاحا، خاصة في ظل التطورات التي
تشهدها الساحة العربية منذ عام تقريبا، وهو مؤشر في حد ذاته على القلق الذي بدأ
ينتاب النخبة السياسية والفكرية للبد بخصوص مصير هذا الأخير.
فلماذا هذا الإلحاح وهذا القلق على مصير
موريتانيا بالذات ؟
هناك من يرجعه إلى ظروف النشأة، وهناك من
يربطه أساسا بمعطيات تتعلق بتسيير البلد، بعد الاستقلال.
فبخصوص ظروف النشأة، يعتبر البعض:
- أن
موريتانيا الحديثة أًسسَت في منطقة برزخية من الناحيتين الجغرافية والبشرية، وهي
المنطقة التي ظلت، على مرالعصور، منطقة عبور أكثرمنها منطقة تعمير واستقرارـ رغم تألق
بعض الحواضر فيها تاريخيا ـ بين إفريقيا جنوب الصحراء والشمال الإفريقي، وبالتالي فهي
ليست مهيأة أصلا لأن تكون كيانا مستقلا في حد ذاته.
- وظل هذا "العيب
الخَلقِي"، إن صح التعبير، يلاحقها بحسب هؤلاء إذ ما انفكت تبحث عن ذاتها،
بحيث يصدق عليها ما قيل عن مصر رغم التباين من حيث البرزخية بين البلدين ـ "دنياها في إفريقيا وآخرتها في آسيا... واحتارت مصر بين الاثنين" (هيكل).
فلموريتانيا ارتباط حياتي مباشر بتخومها
الجنوبية وبمنطقة ما وراء الصحراء عموما، كمالها ارتباط ثقافي وتاريخي وثيق بالشمال
الإفريقي. وهنا تحضرنا مقولة القائد الألماني المعروف، بسمارك، وهي أن "كل
بلد يصنع تاريخه ويتحمل جغرافيته".
- أما تاريخيا، فلم يعرف هذا البلد ـ أو لم يكدـ نظام الدولة
المركزية نظرا للعوامل الايكولوجية التي تفرض الترحال على السكان، ولشيوع النظام
القبلي المحكوم بالعصبية، بحيث بدت الدولة الحديثة، وكأنها فرضت قسرا، في مجتمع
لم تؤثر الإدارة الاستعمارية في طبيعتها لانقسامية وبداوته المتأصلة.
وبالتالي
فهو مجتمع يعاني من الحضور الزائد للماضي، مما يجعله عصيا على تقبل النظام المفروض
عليه وغير مهيإ للتفاعل معه إيجابا.
غير أن ثمة من يرد على هذه الحجج بالقول إن
هذه العوامل لا تخص موريتانيا وحدها، بل إن هناك دولاً لا تحصى برزت للوجود إثر
الفترة الاستعمارية وربما نتيجة لها، وكلها - أو جلها -لا تتوفر على مقومات كافية
لتكوين أمة بذاتها بالنظر إلى النعرات الأثنية والقبلية وطغيان الذاتيات المحلية.
وهو ما حدا بمنظمة الوحدة الإفريقية غداة
تأسيسها، إلى اتخاذ قرار بعدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار واعتبار هذه
الحدود "شرا لا بد منه"، رغم ما خلفته من اختلالات كبيرة في بنيات تلك
الدول الوليدة.
ثم إن تلك العوامل المنافية لوجود الدولة،
خفَت حدتها بمرور الزمن، في ظل عقود من الدولة المركزية، لا سيما في موريتانيا.
وبات المجتمع أكثر انسجاما وتوحدا من ذي قبل،
وتولد شعور متزايد بالمصير المشترك، وتراجعت النعرات والخصوصيات المختلفة، وأضحت
المطالب سياسية عادية، تتعلق بالإصلاح المؤسسي ولا ترقى، في الغالب، إلى مستوى
مناهضة وجود الدولة.
ومن ثم، فإن مصادر القلق لا تكمن في ظروف
النشأة وإنما في عوامل تتعلق بالحكامة وتدبير الشأن العام، وتتمثل تلك العوامل في
عناصر من أهمها:
1ـ كون الحكامة السياسية ظلت تمتاز بانعدام الدولة
المؤسساتية، واحتكار السلطة التنفيذية للقرار وهيمنتها بشكل شبه مطلق على تسيير
الشأن العام.
ذلك أنه، حتى في ظل التعددية والديمقراطية
النسبية، ظل الجهاز التنفيذي يتمتع بالأغلبية الميكانيكية في الهيئات التشريعية،
مما يخل عمليا بالتوازن المؤسسي الذي تقوم عليه -عادةً- دولة القانون، التي تعرف
بأنها: "إخضاع جميع الأفراد والمؤسسات بما فيها الدولة نفسها للقانون"، وهو ما يقتضي وجود أجهزة قضائية كاملة الاستقلالية، تسهر على ذلك التوازن.
هذا، ناهيك عن أن السلطة التنفيذية ذاتها
قلما خرجت من صناديق الاقتراع بصورة نزيهة وحرة، وبشكل يرضي الجميع. ويُعزى ذلك
إلى أن الديمقراطية كانت مطلبا نخبويا بالأساس، ولم تكن مطلبا شعبيا نتيجة لقلة
الوعي واستشراء التخلف، ثم إن هناك تأثير العقلية الشرقية من حيث التعامل مع
"السلطان"، وهنا تكمن المفارقة (غياب السلطة المتأصل والخوف من سلطان
تحتفظ به الذاكرة الجمعية!).
2ـ ضعف الحكامة الاقتصادية، بحيث لم تستطع الحكومات المختلفة
طيلة الخمسين سنة الماضية، إرساء بنية إنتاجية قوية، تحصن البلاد من التقلبات
المناخية، وتذبذبات الأسعار العالمية للمواد الأولية التي تعتبر عصب الاقتصاد
الوطني، فبات هذا الأخير هشا ورَيعِيًا بالأساس، ويعتمد كليا على الاستثمار
الخارجي نظرا لمحدودية الادخار الوطني.
والنتيجة أن أكثر من 42% من السكان يَئِنون
الآن تحت خط الفقر، فيما تصنف موريتانيا حسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية في
المرتبة 157 من أصل 182 دولة في العالم، من حيث مؤشرات التنمية البشرية، أي بمعدل
0.453 وهو معدل أدنى من معدل إفريقيا جنوب الصحراء (0.463)، ويبتعد كثيرا عن معدل
الدول العربية (0.681).
3 ـ على مستوى التعليم، عرفت موريتانيا تدهورا منقطع النظير
في المنظومة التربوية، رغم أن المدرسة لعبت في الماضي دورا مهما في انصهار المجتمع
وتذويب الفوارق بين الطبقات، وكانت سُلمًا للترقية الاجتماعية.
فأضحى التعليم، إن وجد، حكرا على الميسورين،
وما أقلهم، وهو ما ينجر عنه تهميش فئات عريضة من المجتمع، واتساع فاحش للهوة بين
فئاته، فضلا عما لرداءة مستوى التعليم من تأثير سلبي على لاقتصاد الوطني، جراء
استفحال البطالة، نتيجة انعداما لتخصص وقلة الخبرة الوطنية والتبعية للخارج.
فهناك دول عديدة راهنت على التعليم بوصفه أهم
عامل لتحقيق الرقي والنماء، وحققت بذلك نتائج مذهلة مثل دول نمور آسيا.
ومن هنا، فإن انهيار التعليم يمثل، بحسب
الكثيرين، أكبر كارثة تهدد الانسجام الاجتماعي في المستقبل.
ينضاف لهذه العوامل البنيوية عوامل عارضة
لكنها مؤثرة أيضا تتمثل في التطرف السلفي والاتجار بالمخدرات، بشتى أنواعها،
واتخاذ البلد معبرا للهجرة السرية إلى أوروبا.
فهذه العوامل مجتمعة، سواء منها ما هو عائد
لنشأة البلد أصلا أو إلى الحكامة، يعتبرها البعض معوقات كأداء تمثل تهديدا حقيقا
وجديا لتماسك البلد وديمومته.
لكن التغلب على تلك العوامل، أو على الأساسِي
منها، لا يعد مستحيلا في نظر البعض الآخر إذا توفرت بعض الشروط لذلك.
ومهما يكن، فإن ثمة إجماع على وجود تحديات
جسام، ينبغي التصدي لها برؤية متكاملة ومجمع عليها، بغية إيجاد نموذج تنموي جديد
غير ذلك الذي اعتدناه، لكونه لم يفلح في النهوض بمجتمعنا بما يلبي احتياجاته
الأساسية.
وعليه، لا مندوحة من التطرق إلى السياق
السياسي الحالي الذي يتميز بتجاذبات محمومة بين الأغلبية والمعارضة، في ظل ربيع
عربي جارف، يتراوح بين الثورة الصريحة والمطالبة الحثيثة بالإصلاح الاستباقي.
ويجزم الكثيرون، بأن لب الإصلاح يتمثل في
وجود نظام سياسي فعال، يعتمد الديمقراطية منهجا وأسلوبا في الحكم، لا لأنها تمثل
الحل السحري لكل المشكلات، لا بل إنها الأقل سوءا من حيث النظم المتاحة (فكما قال
اتشيرشيل: هي أسوأ الأنظمة باستثناء الأنظمة الأخرى).
غير أن العقل البشري السياسي لم يتفتق عن
أفضل منها حتى الآن، لتدبير الشأن العام، لما حققته من استقرار ونماء في مجتمعات
عديدة (ويبدو أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الديمقراطية بامتياز ونهاية
الأنظمة الشمولية).
وبما أن الديمقراطية تتركز،في إحدى مقوماتها
الأساسية، على الانتخابات، فكيف يمكن وضع آليات تكفل احترام إرادة الناخب، بحيث
تفضي إلى انتخابات لا تكون شفافة فحسب، وإنما تكون كذلك نزيهة وحرة، وكيف السبيل
لذلك في ظل استمرار العقلية السلطانية وهيمنة المال؟.
وعلى افتراض أنه بالإمكان استحداث صيغ ناجعة
لإتاحة تنافس عادل بين الفرقاء، فهل باستطاعة الأطراف السياسية أن تقبل بالنتائج
المترتبة عليه أيا كانت، خاصة إذا كانت تلك النتائج متقاربة جدا؟
فكيف يمكن "للمغلوب" إيثار "غالب" لم يتفوق عليه إلا بنسبة ضئيلة، وهل لهذا الأخير أن
ينزل من علياء هو يعترف بأن منافسه يشاطره المشروعية الشعبية، على الأقل، ويتعامل
معه على ذلك الأساس؟
وبعبارة أخرى، فهل لدينا القدرة لخلق الظروف
المناسبة التي تمكن من إقامة نظام سياسي متوازن حقا، يضمن التناوب السلمي، والمسلم
به، على السلطة، ويدخل البلد، بشكل لا رجعة فيه، في الحداثة السياسية من بابها
الواسع؟
وهل نتائج الحوار المنظم أخيرا كفيلة بتحقيق
هذه الطموحات؟ أم يتعين تحسينها حتى تكون محل إجماع، بما يضمن انتقالا سلسا نحو
التحول المنشود؟
وهل بالإمكان التوصل لعقد شرف بين مختلف
الأطراف بهذا الشأن، يجنب البلاد مخاطر انزلاقات محتملة، وقعت فيها بلدان كثيرة
أخرى؟
هذه التساؤلات وما تنطوي عليه من أسئلة
فرعية، يتعين على ندوتنا،هذه، الخوض فيها. وما من شك في أن المستوى الرفيع
للمشاركين سيمكن من التوصل إلى نتائج مرضية بهذا الخصوص.
0 التعليقات: