المرتضى ولد محمد أشفق |
اختلفوا عليك وتحاربوا باسم هويتك... أرادك البعض أسود فاحما كخافية الغراب الأسحم بلا بقع بيضاء كالبرص المقزز, تولي ظهرك لكل من ينطق الضاد سليمة... وأرادك آخرون أبيض ناصعا كرغوة لبن اللقاح, لا مكان فيك لمن ينطق الضاد دالا لأن البياض لا يحتمل الدنس... وأرادك آخرون كالعين لا بد لسوادها من بياضها ولا بد لبياضها من سوادها كي تبصر... تخاصموا وكادوا يقتتلون.. وكانوا بحاجة إلى أن يطلع عليهم الأمين ويبسط رداءه ليحملوك جميعا فتتلامس الأيدي والسواعد وتتقارب الأفئدة من بعضها ويشعر كل من فيك أن الآخر جزء منه... لكنهم وجدوا أنفسهم شركاء في التمثيل:
كتبوك نصا جميلا بلغة رصينة تتدفق سحرا وروعة, ديباجته قوية النسج, وفقراته محكمة الربط, وأفكاره متناسقة متساوقة جمعت فصوله وأبوابه جمال المبنى وروعة المعنى, وكيف لا يكون ذلك كذلك وقد كتبوه جميعا وغربلوه ونقحوه واستعرضوا فيه كل مهاراتهم اللغوية والإبداعية والفكرية..
قرأناه وحلق بنا في آفاق السعادة.. وأحلنا الفردوس المفقود في ما يشبه سنة و نوما... ولما صحونا من سكر النشوة رأينا النص يتحول إلى مسرحية... تحولت لغته من رومانسية الشعر والبلاغة إلى رطانة الحركة والفعل... ولأنهم أذكياء جدا وبلداء جدا كانوا أيضا هم الممثلين... بألوانهم كلها وأفكارهم كلها... الأبطال ثلاثة: مفعول به ضحية... وفاعل.. ومفعول له... وبدأ العرض فتحولت الشعارات المخملية إلى دخان ورماد, إلى أفعال بشعة, فرأينا الأبطال يميطون ألثمتهم ويخلعون ثيابهم الكاذبة ويتحولون إلى وحوش كاسرة رغم الشبع تتوقد جوعا, وأشهرت كل آلات الفتك وأجهزوا عليك أيها الوطن الغالي (المفعول به).. ليذبحوك ويقطعوك إربا إربا وفي جسمك بقية حياة, لا يأبهون بآلامك... همهم أن تنحر ويعود كل بقطعة من لحمك... لا يسألون أنفسهم: هل فقأوا عينا أم جدعوا أنفا أم بقروا بطنا أم بتروا ساقا... أنت بالنسبة لهم قصة مزورة, أنت فيء, والغبي من يتعفف عن نصيبه منك بحجة أنك أغلى... وأبقى وأهل لأن تبنى... فهذه في شرعهم أغنيات عتيقة يؤمن بها المغفلون... ويكفر بها الذين يغنون بها بكرة وأصيلا وقبل أذان الفجر..
زوروا حتى انتماءهم إليك.. فالشهود شهود زور, والمكان زور, والزمان زور.. زوروا أعداد أطفالهم, بل رأيناهم في هذه المسرحية العجيبة زوروا أطفالا للأعزب والعقيم ليقتطعوا منك تعويضات عائلية زهيدة يرونها خيرا منك... زوروا الحياة للموتى ففي نهاية كل شهر يهب بعض الموتى من قبورهم, ليسحبوا رواتبهم ثم يعودون إلى مضاجعهم... زوروا الموت للأحياء, فقد تلتقي قوما رحلت لتعزي فيهم, قبل أن تدرك أنهم أموات بشهادات مزورة حتى لا يدفعوا ديونك، لأنها بالنسبة لهم خير منك... زوروا المرض - لم يمنعهم الفأل السيئ- لأصحائهم حتى لا يخدموك لأن راحتهم واستمرار مخصصاتهم يرونها خيرا منك... أراملهم الفتيات اللائي تزوجن يبقين مترملات لتبقى معاشاتهن جارية منك, وأطفالهم يبقون دون سن الرشد دائما لأن تعويضاتهم خير منك... زوروا الوظائف ليتقاضوا رواتب مقابل لا شيء لكنهم يرونها خيرا منك... فرغوا من وظائفهم الأصلية وأغلقت مدارس وفصول ومعامل ومكاتب في كل الأجهزة وتراكموا في قطاعات لم يروها ليمارسوا التجارة في الصين والهند وإفريقيا والخليج وظلت رواتبهم نزيفا من شرايينك... زوروا المنازل ليؤجروها لأنفسهم وتدفع أنت... لأن ما تدفع لهم خير منك... زوروا الجهل فدخلوا بيوت محو الأمية وهم يحفظون القرآن ويحملون شهادات عليا في القانون والتشريع ويتهجون (بـــــا بــــــــــــو بــــــــي) ليأخذوا منك ما يرونه خيرا منك... زوروا الغنى ليقترضوا منك ولا يقضون.. وزوروا الفقر ليأخذوا منك إذا حنوت وتكرمت... زوروا الفواتير, فأنت فيها فردوس وجنات نعيم تجري من تحتها الأنهار، وأنت على الأرض تنزف بعد أن نهشتك أنياب المفسدين وقضمتك أضراس العابثين... فقصورهم من دمك... وقطعانهم من دمك... وسياراتهم الفارهة من دمك.. وزيجاتهم من دمك.. زوروا المدارس من أجل الكفالات وجلبوا الأطفال الأبرياء من أماكن قصية ليكونوا شهود زور وليبدأوا التعرف عليك بقصة ملفقة ترى كبارهم يتغامزون ويسخرون من كذب آبائهم... زوروا المحاظر واستعرضوا الألواح الخشبية والقرآن والأطفال الصغار ليأخذوا منك.. ما هو في شرعهم خير منك... أتعرف من هؤلاء يا وطني هم فاعل ومفعول له وهم قبل ذلك أبناؤك وقد ائتمنتهم... فعلى كل وثيقة مزورة وضعوا ختمك ورمزك... ثم هم مسلمون يصلون في المساجد الليالي الممطرة لا تثنيهم ظلمة ولا وحل ولا بعد... يصومون رمضان و يتطوعون بصيام رجب وشعبان... يحجون ويعتمرون... يقرؤون القرآن ويبكون من خشية الله... يتحدثون عن مروآتهم ونقاء سرائرهم ويستعيذون بالله من الضلال المبين ومن أكل مال المسلمين... يعظمهم البسطاء ويقبلون يديهم ويتوسلون بهم لنيل رضى الرحمن..
وبعد:
بين ثالوث طبقة سياسية متعفنة وإدارات متسلطة ونخب ثقافية وعلمية راكعة يضيع الوطن بكبريائه, بشموخ جباله وكثبانه, بسخاء سهوله ووديانه, بجلال تاريخه وعز محاظره وعظمة علمائه.., بفروسية أبنائه ودماء شهدائه.. بنقاوة صحرائه وبراءة بداته الذين لا يعنيهم منه سوى مواقع القطر ولا يدرون ما اسم السلطان...
عودتنا الطبقة السياسية المتعفنة على التميع والتلون وتبديل الأدوار دون الحاجة إلى فترات تدريب أو استراحات قصيرة... لا تستحي إن تحول التكشير إلى ابتسام, والإدانة إلى إشادة وعلى الخشبة نفسها دون اللجوء إلى الستار لتبديل الديكور... تعودت حياة البذخ والترف واستنزاف المال العام, شاخت وحرمت بهاء الوقار ومات فيها كل شيء إلا رمق الجشع والمتاجرة بضمائر العباد واغتصاب آراء الناس بالابتزاز وأساليب الترويع والترغيب البدائية.. همها تنمية رأسمالها السياسي... وتلميع صورها المعتمة, لها قطعان مدجنة تحشرها في معالف متفرقة... وهي ذخيرتها في الحرب, لكنها لا تأمنها رغم ما تضخ فيها من وسائل ورغم ما تبديه القطعان من رضى, فما تقوله المعزى في العلن وتقسم عليه في المصحف شيء وما تفعله حين تخلو بنفسها شيء آخر, ولها أوطان سياسية هي مدنها وقراها الداخلية... لا تزورها إلا إذا استحصدت مزارع السياسة... فتتداعى ربيعة ومضر وعبس وذبيان كما يتداعى الأكلة على قصعتها ويدقون بينهم عطر منشم وتدور معارك قبلية وعشائرية وأسرية يخف فيها الوقار ويجهل فيها الحلم... ويزور فيها التاريخ والجغرافيا والفقه, وتستعرض فيها القطعان لتتصارع الفئران والضفادع والحيات وحتى النعاج السياسية, فإذا وضعت الحرب أوزارها سارعوا بالرحيل إلى أوطانهم في نجد وتهامه وعطارد والمريخ قبل تضميد الجراح وجر الموتى إلى القليب... مكتفية بذر بعض الحبوب المتقعرة لديكة المواسم تتقاتل عليها وتشغلها عما هو أكبر, ويدوم الهجر إلى أن يأذن الله بموسم سياسي جديد..
أما كثير من إداريينا فيسبح به الخيال إلى عصور الظلام وجهل الرعية... يحلم بسياسة السلطان والصولجان والحراس الخصيان, وكسرى أنو شروان , غير مدرك أن عهد: خذوا ابن الزانية إلى السجن فقد ذكر الله قبل أن آذن له قد ولى, وأن عصر هولاكو وحرابه وكلابه قد انمحى حتى من ذاكرات المغفلين... هؤلاء هم الدولة أمام الشعب, فبهم يقتنع أن له وطنا يستحق الولاء أو يدرك أن كلمة وطن مسمى للوهم... والظلم والغطرسة والتكبر والغلظة... ويصير عدوا يستحق العقاب... ترى طوابير البسطاء الكادحين المعيلين أسرهم بعرق الجبين يتدفق كحبات اللؤلؤ على جباههم, رؤوسهم شعث يكللها غبار أجمل من النضار لأنه أثر معركة مقدسة للكسب الحلال, تلفح وجوهم الشمس فتكسبها ألق سمرة داكنة تختزن معاني الشرف وشهامة البدوي النظيف, لكنهم يدفعون بالأبواب لأنهم من ذوي الأطمار, أما من يفترض أنهم مسؤولون ففي مكاتبهم قابعون تحت عويل المكيفات يستنفدون طاقات الهواتف العمومية, يخوضون في أحاديث اللغو البعيدة من هموم المواطنين وتستهلكهم أعواد السجائر لا يستقبلون إلا من تبدو على وجوههم نضرة النعيم ليكونوا شركاء في صفقات يذبح فيها الوطن والأمة... بل إن كثيرا من هؤلاء الإداريين في قطاعاتهم المختلفة – خصوصا في الداخل - يخلقون بينهم ما يسمى رحم الغربة ويقتضي أن يتبادلوا المنافع كل حسب ما استرعي من مصالح الشعب وأمواله لأنهم لا يدرون متى يعزلون على طريقة (أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم) - مسكين السيد القاضي عزلته ضرورة السجع -, ولو كان بعض هؤلاء المسؤولين مسؤولا حقا كل من موقعه لانتهز فرصة عمله لترسيخ قيم المواطنة بتطبيق العدل والإنصاف والمساواة والقرب من المواطنين, حتى يحبب الوطن إلى الشعب فيقتنع أن الوطن يستحق الحب والتضحية والولاء، وأنه أغلى من الحياة نفسها... يروى أن حاكما فرنسيا كان يلهب ظهور المواطنين بالسياط ويقسو عليهم في كل أمر خلافا لبعض دهاة الفرنسيين الذين كانوا يتملقون المواطنين بالهدايا والهبات ليحببوا إليهم فرنسا ولما كتب الحاكم مذكراته اعتذر للموريتانيين عن قسوته قائلا إنه من أصل عربي وإنه كان يريد أن يقوي بغض الموريتانيين لفرنسا...
أما النخب الثقافية والعلمية الراكعة فهي آفة الوطن ومصدر الوجع الخلقي المستشري والخارج على السيطرة.. أليست هي من يلوي أعناق القوانين والشرائع وحتى الأحاديث والآيات القرآنية لتبرير وتمرير قيم الفساد والانحراف؟ ألم تتنازل عن عظمة الشرف وكبرياء العدل وانتصاب القامة يوم لهثت وراء المال وقبلت أن تكون سدنة في معابد آلهة الثروة المسروقة؟ أمس كانوا قادة وكانوا ذادة وكانوا أهل الريادة وأهل السيادة عندما كانوا فقراء يظنهم الجاهلون أغنياء من التعفف... كانوا يحملون ثروة لا تنقص وقوة لا تضعف: قيمة المعرفة, وأخلاق الثقافة يتنفسون عبقها وشهامتها, لا يفكرون في السيارة الفارهة والقصر المشيد والقطعان السائبة بين الأودية, كانت أقصى أمنيات أصحاب الأموال والسلطة أن تتزين مجالسهم بالنخب الثقافية أيام كانت هذه النخب ترفض لأنها لا تحب إلا كبرياء اليد النظيفة والضمير النقي وعظمة النفس القانعة... واليوم وقد تسلل الوهن إلى نفوسها كفرت بالمبادئ وابتدعت ثقافة التزلف والتكسب والنفعية الجشعة... فتحولت إلى أذناب وخطباء أعيياء للدعاية الرخيصة وتسويق الفكر النحيل.. وضاع وطن تنحني نخبه طمعا لأقزام الفكر والأخلاق والوطنية... نخب تصفق لخطابة باقل وتحلل أبعادها الجمالية والبلاغية والفكرية وتسخر من عي ابن ساعدة وسطحية أبي العلاء.. نخب تتعفف عن سرقات المتنبي وقصائده البلاطية, وتمدح كلب الأمير... وتتغزل بالعوراء أم جميل...
3 التعليقات:
عفوا فلتكن مجرد مشاهد حتى لا تكون مجرد شاهد زور وقد قررت أن الشهود في وطنك شهود زور.
مقدمة رائعة فعلا ولكنك أضعت المسرحية بتعريتها
المشاهد اذا روى يكون شاهدا...وفي كل تعميم استثناء..لعل الكاتب لايعني ان كل ما في الوطن زور وسيء فالتعميم هنا للتغليب..يدخلون اصابعهم في ءاذانهم المراد جزء من الاصابع لانها لا يمكن ان تدخل كلها...ففي الوطن مخلصون وصادقون ووطنيون لكنهم مغمورون...ومعطلو الادوار...
مأساتكم معشر الملتزمين أنكم في واد وجمهوركم الأكمه في واد، تكتبون ما لا يقرأون وتقولون ما لا يسمعون، توغلون وتقرِّبون ولكنهم لا يفهمون.. يضحكون عليكم ويسخرون.. وأنتم عليهم أسفا تعتصرون ولا تغْنون.. مأساة مأساة مأساة...