لاقتراحاتكم ومشاركاتكم يرجى مراسلتنا على العنوان التالي:alegcom@hotmail.com

الأحد، 20 مارس 2011

الانحناءة الأولى


المرتضى ولد محمد أشفق
اكتوبر 1983 دخل حائط إعدادية البنين بانواكشوط  يحمل حقيبة صغيرة فـــــــيها معدات أستاذ حدث يتقاسمه عالمان: عالم الأحلام الوردية التي يغرق فيها ذوو العشرين ربيعا عادة، يهيمون في دنيا الصفـــــــــــــاء والخيال والجمال قبل أن تنزل بهم من فضاءات الحلم أثقال الهموم وعقبات الحياة، عالم آخــــــر كانت مخالبه تخز خاصرة الأستاذ الشاب فـترميه بعيداعن عالمه الجميل: عالم الــــــــفقر ومسؤولية اجتماعية تحملها مبكرا كانت وراء اختياره وظيفته تلك.

يقبل الأستاذ بأعوامه العشرين، و بـــــهمومه على عمله راضيا حينا ومستميتا لا يرى في الدنيا أنبل منه رسالة ولا أشرف عملا حينا آخر. حسبك أن تعلم أنه طلب من المدير أن يملأ له جدول عمله فهو لم يأت إلا ليكون وقته كله في سبيل الوطن، أليست هــــذه قناعة الفتى الأبي؟ وقد بلغ الحماس بفتانا أنه كان يشتري المشروبات لزملائه الأســــــاتذة وأعضاء الإدارة أوقات اجتماعات الفصول.. كم هو ساذج وغبي حسبما تسره تلك الوجوه المحيطة به من كهول الأساتذة.. وهـــــــــم يتناولون الشراب وينظرون إلي (الطفل) زميلهم بعيون منكرة ساخرة مستزيدة...

سنوات ست قضاها صاحبنا فــــــــي انواكشوط مدرسا فــانيا في عمله، مواصلا مشواره الجامعي ومؤديا مسؤوليته الاجتماعية كما ينبغي له...

وينتقل أستاذنا إلى الداخل مدرسا بحماسه المعهود ليلتقي بزملاء تقاسموا معه ذلك الحب الصوفي للتدريس بل تكونت لديهم عقيدة مهنية ترفــــض كل شيء يبعد عن هذه المهنة التي هي قدرهم وهم قدرها، والناس من حولهـــــم زملاء فصول وتلاميذ تارة يختزلون درج الترقيات بسرعة برقية، وواصل صاحبنا ورفاقه التحليق سافـــــلا في أحط الوهاد المهنية داخل الفصول التربوية حتى بلغوا من العمر المهني عتيا.. ثم قدر لهم أن ينالوا ترقيات صعدوا إليها صعود سلحفــــــــاة عرجاء مقيدة تجر فــيلا إلى قمة كثيب رخو الرمال، رقوا إلي مديري دروس مكلفين بالتدريس؛ نعم مكلفـون بالتدريس لأنهــــم لايستحقون أن ينالوا هذه الترقية إلا أقساطا بعد أن تجاوزوا النصف الثاني من العقد الثانــي من عمرهم المـهني في الفصول.. وكيف لهم أن ينالوها كاملة وهم الذين رفضوا إن يدفعوا ثمنها لإيمانهم أن السياسة عكـــاز يتوكأ عليها العرجان، أما هم فقد أنعم الله عليهم بأرجل صحيحة.. وتفضل عليهم بعد ذلك بالتفــــــــريغ، وأغدقت عليهم الوزارة شآبيب فضلها فرقوا كالقابلات إلى مديري مؤسسات في بطون أمهاتها عرضت علــى غيرهم فأباها، ولا يفتك أن الحصول علـى تلك الاجنة لم يتم إلا بجهود وسطاء أنفقوا في سبيلها ما يعلمه الله.

بعد عشرين سنة من الخدمة التربويـــــة أنعمت الدولة على صاحبنا بوظيفة جليلة: مدير إحدى هذه الأجنة في بلدة نائية، وما أدراك ما إنشائية فــي بلدة نائية؟ هذا موضوع حديث آخر.. وافق عليها بعد أن رفضها اثنان، وما قبلها إلا لأنها خطوة إلى العودة.

وعاد، عاد الــــــــى مؤسسة تشده اليها أواصر خاصة: أواصر الأمومة فــــقد كان ضمن أول دفعة ولجت أبوابها للدراسة، وفــــــيها درس وكان أبا علميا لأفـــــواج من التلاميذ لم ينكر منهم ولم ينكروا منه.. وفيها تسلق درج الترقيات ببطء وعـــــــناء شديدين ومن طبع الأمهات أن لا يتركن أبناءهن يصعدون عاليا شفقة ورحمة وحبا لقربهم.

هو الآن إذا مدير مؤسسة ثـــــانوية، وكم كان يحلم أن يصبح كذلك، كم تمنـــــــى أن يتحرر من طباشيره ومحفظته وتلاميذه ويجد نفسه يوما في مكتب مغلق.

تذكر أيام كان يمضي 3 أيام فـــــــي الفصول بين تلاميذه يقدم لهم وجبات علمية فيها عطر الكبرياء، تذكر كيف كان ينفق بقية أيامه في القراءة والكتابة مرتاح الضمير مستريح الخاطر..

واليوم وبعد أن أصبــــح مديرا... أصبــــــح عليه أن ينحني و يتملق ويجامل وينحرف أحـــــيانا عن مثله وقيمه، يخيل إلى غيره أنه صعد والحق أنه انحط،، انحط فكريـا فيوشك أن يصبـــح أميــــــا لانشغاله بأمور قتالة للشعور، بأرقام ونصوص هزيلة يحرر بهــــا الـــــــــرسائل الإدارية، انحط خلقيا لأنه أصبح يثمن البخس ويحسن القبيح ويصدق الكذوب، وأصبح يصفق وربما يزغرد كالمخنث..

استفاد لقب المديريقولها له اثنان: ســاخر وساذج، ساخر يدرك أنه ليس شيئا ولا قريبا من شــــيء، وساذج  مسكين يرى له شانا أي شان؟؟؟ يستقدمه الوالــــــي أو الحاكم لأتفه الأسباب.. يأتيه البسطاء والمغفلون في
حاجاتهم يخيل إليهم أن له ذراعا طويلة في سائر أجهزة الدولة، وهم يريدون منه أن ينفعهم لدى الوزير فلان أو لدى الوالي فلان أو القائد فلان الخ وهنـا إما أن يكذب ليحافظ على الصورة المزيفة والمقام العالي الذين تختزنهما له ذاكرة المغفل، وإما أن يصدقهم فيقول لهم إنه يخاف حتى من بواب الوالي ومن سيارة الوزيرفيسقط من أعينهم ويزدرونه...

تحيط به طواقم بشرية بين أساتذة ومعاونين: أمـــا بعضهم فينصفه ويؤازره، وأما بعضهم فـــــيراه خصما تجب محاربته من أول يوم ، وأما بعضهم فيرى مخالفة رأيه فتحا يسجل في ذاكرة الايام.

يجب عليه أن يصل ليله بنهاره من 15سبتمبر حتى 30 يوليوكل سنة مع ما قد يجد من الطــوارئ تجد معها أمور أخرى، خلال هذه الفترة لا بد أن يمثل دور الأب والمدرس والعامل اليدوي والمراقب والشرطـي والمتحسس والمتربص حتى يضمن توفر جو عمل مريح هذا مع قلق دائم وهمِِّ ملازم،فـــهو المسؤول عن حرب لبنــــــان وانفجارات العراق بل هو من القاعدة يجب أن يرحل الى اكونتينامو، فـمن باب أولى إذا رمى مشاغب حجرا على السقف وروع التلاميذ، أو إذا أسند الأقسام النهـــــــائية إلى أساتذة أكفاء ودعم جهودهم بحصص تقوية، وتحقق من اكتمال البرامج ثم تدنت نسبة النجاح فهو السبب أيضا. كأنك يا قارئي الكريــــم تقول لي: والميزانية ياسيادة المــــدير وأنت محق وإلا فلماذا يبذل الأساتذة الجهود الجبارة للحصول على هذه الأتعاب المتواصلة؟ وأنا شخصـــــيا ما زلت حائرا في تلك الدوافع: هل هي من أجل تحسين الوضع المادي أو المعنوي للأستاذ؟؟؟.

وصحيح أنه من بداية تسعينات القرن الماضي لم تعد المعرفة قيمة محمولة فــــي المجتمع وتقزمت قامة المدرس إلى أقصر من ملمترنظرا لطغيان قيم الفساد التي تفرزها الـحياة السياسية للبلد يومــذاك.. أما الوضع المادي فمستحيل أن يتحسن بالعلاوة الجديدة بل قد يتدهور لما ينتــظر منه بحكم وجودها إلا إذا طاشت يد المدير إلى الحرام.. طريقان أمام المدير: طريق نجـــــاة فــــــيها حر وقر ورمل ووحل وثعابين معالمها إن كل لحم نبت من حرام النــــار أولـــــــى به، وإن من غل يأت بما غل يوم القيامة، وإن المال العام حق أمة تجيء وواحدة تعيـــــــش وأخرى تذهب، وطريق آخـــر يزينه لك الشيطـــــــــان والناس موسوسين إليك باستبقاء ما أمكن ليكون نزيل جيبك تنــــــــــال به شيئـــــــــا من زخرف الحياة الدنيا ترفع به رأسك بين أقرانك، وللشيطان والناس من وسائل الإقناع مـــــا تأنس اليه الأذن وترتاح له الأنفــــس،..الإدارة إذا فترة احتضارمهني قيمي خلقي للاستاذ اعترف بذلك أم تجاهل.

هذا هو صاحبنا تسلق زحفا رتب الترقيات كأمي لايملك المؤهلات العلمية، هو الآن يريد أن يعود أدراجه فينفض الغبار عن محفظته وطباشيره ويوقظ دفـاتره القديمة ليجد نفسه من جديد أمام أبناء تلاميذه القدامى، فهل يقبل الجيل الجديد عودة جد من رحلة تيه وضياع لم تنسه عظمة الحرف وكبرياء الكلمة...
                                                                   
 بقلم الأستاذ المرتضى ولد محمد أشفق (2006)
تنشرها "ألاك كوم" بعد أن شرفها الأستاذ بإرسالها إليها
                                         

2 التعليقات:

وصف رائع للصراع الذي يدور في اذهان اصحاب الضمائر الحية - وقليل ماهم - بين الحفاظ علي المبادئ والاخلاق و القيم من جهة و اكراهات الواقع من متطلبات مادية و اجتماعية من حهة اخري وهو فعلا صراع عنيف و للأسف دائما ما تكون الغلبة فيه للطرف الأخير

مقال رائع بحق ومدير شاعر وأديب وغامض

إعلان