الإعلامي أحمد ولد محمد المصطفى |
عايشت عمال الشركة الوطنية للصناعة والمناجم "اسنيم" طيلة الأسبوعين الماضيين، كنت أواكبهم خلالها صباح مساء، وألتقي بهم في المنازل المؤجرة للقطاعات العمالية، وخصوصا القطاعات ذات الكثافة العمالية كقطاع 800 و900، ومن خلال هذه المعايشة أمكنني استخلاص ملاحظات سريعة أوجز بعضها فيما يلي:
الملاحظة الأولى: أن العامل العادي في هذا إضراب عمال "اسنيم" الحالي متقدم على النقابي، وأكثر اندفاعا نحو التصعيد الإيجابي، بدءا بالدخول في الإضراب، وليس انتهاءا بالتأكيدا على الإصرار في الإضراب والمضي في مساره حتى تحقيق المطالب.
وفي الحقيقة فإن الرأي العام العمالي – كما لاحظت – كان مصرا على تحقيق مطلبه بتنفيذ الاتفاق الموقع مع إدارة شركة "اسنيم" يوم 03 مايو 2014 برعاية ولاية السلطات الإدارية في ولاية تيرس الزمور، وهو في سبيل مستعد لكل شيء، بما فيه تجاوز مناديب العمال ونقاباتهم، والتوجه نحو الإضراب بقيادة قيادات من الصف الثاني النقابي، أفرزهم التصعيد العمالي، وأصبحوا لاحقا أعضاء فيما أصبح يعرف بـ"قادة منسقية القطاعات"، وقد أدى ذلك لتسارع خطوات النقابيين، حتى لا تتجاوزهم الحركة العمالية، فلم تستغرق مرحلة ما قبل الدخول في إضراب مفتوح وشامل 72 ساعة.
الملاحظة الثانية: أن قيادات الصف الثاني أخذت مكانتها فعلا في الإضراب، حيث تشكل اليوم قيادته الصلبة، وتنتظم في هيئة مستحدثة وتعرف باسم "منسقية القطاعات"، وتضم في عضويتها منسقا عن كل قطاع من قطاعات العمل في اسنيم، ويجتمع هؤلاء بشكل يومي لتقييم الأوضاع، ويعايشون عمالهم عن قرب، ولطبيعة علاقتهم بالعمال فهم أكثر قربا إليهم، وتأثيرا فيهم.
وهم اليوم حلقة الوصل بين العمال والمناديب، والموجه الأساسي للإضراب، والمتحكم في وقعه.
الملاحظة الثالثة: حول تهافت اتهام العمال المضربين بالتسيس، فالحقيقة أن الغالبية الساحقة من العمال غارقة في يوميات عملها، وهي عند التصويت – كحق مدني - أقرب للحزب الحاكم.
أما محاولة السياسيين ركوب الموجة، أو توجيهها، فهو في الحقيقة أمر يتعلق بالسياسيين وليس بالعمال المضربين، ومن الطبيعي أن تحصل محاولاته، وقد حصل فعلا، فمع بداية الإضراب أوفد حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم وفدا قياديا برئاسة أمينه العام عمر ولد معطل، وكان خطاب هذا الوفد لمناديب العمال دال على نوعية النظرة التي ينظر بها الحزب للحراك العمالي.
فرغم أن الوفد السياسي قدم نفسه كوسيط بين إدارة شركة اسنيم والعمال إلا أن خطاب رئيس الوفد الوسيط بعد مشاورات داخل المدينة – قيل إن ختامها كان مع إدارة اسنيم – كان صريحا بأن عليهم إذا كانوا حزبيين أن يلتحقوا بعملهم بشكل فوري، وإدارة الشركة ستلبي المتاح من مطالبهم، وإذا لم يكونوا حزبيين فلا حديث له معهم، ورفعت الجلسة وسط دهشة بعض أعضاء لجنته من الحزب الحاكم، والمنتخبين المحليين.
الملاحظة الرابعة: أن امتداد فترة الإضراب أكسبت العمال تجربة أكثر، وتماسكا أوثق، وزادت من تحكم حلقة الوصل المعروفة بلجنة التنسيق، حيث تظهر بصمتها كل يوم في المسيرات والمهرجان، وفي الطريقة التي يدخل بها العمال إلى ساحة الاستقلال، جماعات أو فرادى، صفوفا أو مجموعات، فضلا عن تحديد مسار المسيرات كل يوم، ومكان التقائها، وتوزيع التموين بين القطاعات، وضمان التوازن، وخصوصا التبرعات التي وصلت المضربين من مختلف القوى الحية في المدينة، وهو ما يكشف جانبا من حجم التضامن الشعبي الذي يحظى به الإضراب والمضربون في الزويرات.
الملاحظة الخامسة: "الإنتاج" منطلق الإضراب: شكل القطاع الأهم في شركة "اسنيم" وهو قطاع الإنتاج المعروف في أدبيات الشركة وعمالها بقطاع "800" القطاع الأكثر فاعلية في الإضراب، والأشد حيوية، والأوفر عددا – تقريبا – والأوسع تجاوبا مع الإضراب، والأكثر وعيا باتخاذ احتياطات للطواري قبل الإقدام على خطوات التصعيد.
فهو القطاع الوحيد الذي يتوفر على صندوق مالي للطواري، وقيادة ميدانية شكلت لاحقا نواة المنسقية التي سبق الحديث عنها، ويوجد في صندوق الطواري الخاص بـ800 حسب العمال أنفسهم – عدة ملايين، تم جمعها على شكل مساهمات قليلة ومتدرجة خلال الأشهر – وربما السنوات – الماضية، وأعدت لمثل الأيام الحالية، من أجل ضمان طول نفس الاحتجاجات العمالية، وتوفير سند مالي للمشاركين فيها عند استخدام إدارة الشركة لعصا قطع الرواتب.
وقد بدأت هذه التجربة في الانتقال لقطاعات عمالية أخرى، وهو ما يعني أن الإشكال الحقيقي – بالنسبة لإدارة الشركة وربما للسلطات ككل – ليس الإضراب الحالي، وإنما الإضرابات القادمة، والتي ستستفيد لا شك من أخطاء ونقاط ضعف الإضراب الحالي.
الملاحظة السادسة: قيمة اللحظة: فجل العمال المضربين يتحدثون عن إدراكهم لمصيرية اللحظة النقابية التي يوجدون فيها اليوم، والانعكاسات التي يمكن أن تنتج عنها الحياة النقابية – والعمالية - في البلاد ككل.
فتحقيق عمال "اسنيم" اليوم لمطالبهم – بأي طريقة كانت سيكسب الحركة النقابية في موريتانية عدة نقاط إيجابية، ويدفع بها نحو أرضية أكثر صلابة، ويجعل خطواتها إلى حقوقها أكثر ثقة، وإن انكسرت فستعيد التجربة النقابية أعواما، وربما عقودا إلى الوراء.
الملاحظة السابعة: الحلقة المفقودة: إذ إن عمال الشركة الوطنية للصناعة والمناجم في الزويرات يشكلون الحلقة المفقودة في طبقة النخبة الوطنية، وهي النخبة الناضجة، والواعية، وغير المسيسية في غالبيتها، وتزايد دورها الوطني، وانتقال تجربتها لمناطق أخرى سيكون له أثر إيجابي على البلاد ككل.
الملاحظة الثامنة: مستقبل التعايش: فالنخبة العمالية في الزويرات تقدم يوميا في ساحة الاستقلال صورا مشرقة للوحدة الوطنية الموريتانية، تضع أمامك صورة مصغرة لموريتانيا بأعراقها، بلغاتها، بجهاتها المختلفة، وفئاتها العمرية المنوعة، موحدة، منسجمة، منظمة، ناضجة، مدركة لمطالبها وللمزالق التي يمكن أن تعترض طريقا.
الملاحظة التاسعة: سلمية مستمرة: فقد أثبت العمال، وترفعهم عن الاستفزازات التي تعرضوا لها من حين لآخر، بدءا من اليوم للإضراب، وطبيعة حضور قوات الأمن بكثرة إلى الساحة في يومها الأول.
أما بالإجراءات العقابية التي اتخذتها الشركة لاحقا في حق مئات العمال من بنيهم قادة الإضراب، وذلك بطلبات فصلهم، ومنع المئات من اىستفادة من مخازن الأغذية التابعة لشركة اسنيم، ومن الخدمات الصحية للعيادة المجمعة "لاسنيم" في الزويرات، وتوج هذا المسلسل بتسليم الآلاف من العمال كشوف رواتب تحمل أصفارا مع بداية الشهر الجاري.
ولا يمكن – أثناء نقاش هذا الموضوع - تجاهل دور السلطات الإدارة من خلال اتفاقها مع العمال على تحديد أوقات للاحتجاجات، وهو اتفاق جنب المدينة تصعيدا ستكون نتائجه بالتأكيد ثقيلة، ليس على مدينة الزويرات فقط، وإنما على موريتانيا ككل خصوصا، وأن شبح الأحداث الأمنية التي عرفتها المدينة نهاية مايو 2013 ما تزال ماثلة في أذهان الكثيرين، وأدت حينها لإحراق عدة منشآت حكومية ونهب متحوياتها، من بينها مبنى الولاية حينها، ومبنى الإذاعة الرسمية.
الملاحظة العاشرة: أخيرا، يبدو كما لو أن الأزمة تصاعدت بشكل لم يكن أي من أطرافها يتوقعه، وقد تجاوزت اليوم عدة مراحل، وأصبح حسمها النهائي على المكتب الرئاسي في القصر الرمادي بانواكشوط، مع أن الواقع يقول إن جلسة مفاوضات واحدة بين مناديب العمال وممثل عن إدارة الشركة في النصف الأخير من شهر يناير – أو حتى قبله – كان كافيا لتجنيب الشركة – والبلاد - كل هذه الخسائر، لاستعداد العمال – كما يقولون - لتفهم وضعية الشركة في حال تم نقاش الموضوع معهم، والتعامل معهم كشركاء منتخبين يمثلون العمال، ولا شك أن هذا الخيار كان سيضمن بقاء الملف في حجمه الطبيعي، كملف مطلبي لنقابات عمالية لدى إدارة الشركة التي يعملون فيها.
تبدو الضرورة اليوم قائمة لانتزاع فتيل الأزمة قبل أن تفجر، وإزاحتها من مربع كسر العظم، والفوز الكلي أو الخسارة الكلية، وهو ما يحتاج إرادة حقيقية، تدرك حجم الأزمة، ومساحة انتشار حر لهب كرتها المتدحرجة، وخطورة مآلات تركها تتفاقم دون حل على الشركة، وعلى المدينة وعلى البلاد ككل.
1 التعليقات:
كفيت ووفيت جيزت خيرا دمت ودام مسعاك