![]() | |
| المرتضى ولد محمد أشفق |
غابت الشمس مساء ذلك اليوم البارد وراء الغابات المتراصة والحقول الممتدة ملء البصر في اصطفاف هندسي عجيب حول (بيبور), تتبع تعرجاته وتحتضنه متماسكة كأنها تخاف أن ينفلت الثائر المائج ويضل الطريق... في الأفق بقايا سحب نحيلة أكسبتها الشمس الآفلة لون اللهب... وفي السهل المنبسط تتناثر بضع كديات سمراء اختار القادم من وراء البحار إحداها لمقامه... كانت موجات البرد الخفيفة تهز الخيمة المضروبة على (الخوبه) هزا لطيفا... وكان الفتى الرومي يواصل سمره مع قطيعه المدجن وأنامل الليل تعزف إيقاع الصمت والسكون... بدأت النجوم تتهاوى كأنما المشرق والمغرب يتحاوران عبر تراشق ودي بديع... كان الرومي يقرأ في علو منزله معنى التكبر، وهو يرى أولئك البداة حول مواقدهم في الحقول يستدفئون، وفي بيوت الطين المتناثرة يهجعون...
ما كان الفتى الرومي العائد لتوه من بلاده وقد نزع أشواك الشك يتصور أن ذلك السهل المنبسط وقاطنته (السذج) يخفون ما يخفون.. فتية مشاغبين.. [فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى... وقد أبرموا أمرا بليل..].. ما كان يدري أن هذه الليلة حبلى بمولود سيكون له شان أي شان..
مشى النصراني في الساحة فرحا وتبختر بطرا وهو ينظر إلى الكون السابح في بحر الظلام والعالم التحتي الصغير ينازل البرد والباعوض والريبة في أمر هذا الضيف الثقيل... تراكم الليل على بعضه فلم يعد يسمع سوى الأصوات الوهمية يحدثها الصدى من لاشيء, وحركات ناشطة الليل وهي عندنا الجن والشياطين والسحرة المتجلين في حيوانات وطيور كالكلاب السوداء والنسور والغربان... وربما انبعثت أصوات بعض المعذبين من نزلاء القبور.. إلى غير ذلك مما تختلقه المخيلة الشعبية المستندة غالبا إلى الخرافة والأسطورة... طبعا لم يكن صاحب البشرة البيضاء يفكر كما نفكر, لكن له شياطينه وجنه.. له مصادر شر يجهلها, يتخيلها ويسترق السمع إليها... رجع إلى مخدعه وأسلم نفسه لنوم أراده هادئا لكن شغب الفتية كان له بالمرصاد... ما كاد كبلاني يتابع بغبطة وهناء شريط الأحلام الذي بدأ بتحقيق حلمه الكبير: (قلعة ألاك الآمنة) حتى جاء الليلة المخاض وبدأ الطلق.. اهتزت الأرض وضجت الآفاق وقطع الزلزال ذلك الهدوء الليلي وتلك الأحلام الجميلة عن الفتى الواهم الحالم وهو يغط في نوم عميق... تسارعت أنفاسه.. تلاحقت نبضات قلبه... وجه الأوامر إلى مجهول... صرخ ثم انهار وسقط... لم يمت.. لم يتوقف قلبه عن الحركة, لكنه تمزق وتعذب وهو يرى صرح أحلامه يتهاوى.. لقد صار الحلم كابوسا والكابوس حقيقة أذاقت الرجل وجع الفضيحة الشخصية حين زعم أن أولئك البداة السمر صاروا عجينة بين يديه, وإذا العجينة تتحول إلى حمم ونار تلتهم عظمة وجبروت فرنسا... نعم فعلها البداة السمر أبناء الخيمة والصحراء.. تحرك فيهم دم الرفض والإباء.. دم المسلم الحر يأبى الخنوع والاستسلام.. فيرى كبلاني وقطيعه المدجج, وفرنسا وعديدها وعتادها, كل ذلك يتقزم ويتضاءل ويتلاشى, لأن الحق في قلوب المجاهدين -وإن كانت الوسائل بدائية- أقوى من الباطل في قلوب الظلمة وإن ملكوا العدة والعديد.. وها هي الأنامل التي كانت تعزف بهدوء ورتابة تشد الأوتار, وتغير المقام.. صار الإيقاع جلجلة والنغم زلزلة... والبنادق البدوية الخشبية ترسل خطابا عاجلا إلى الفتى الرومي.. خطابا لن يحوجه إلى ترجمان لأنه سيفهمه...
الزمان 09/12/1903.
المكان: ألاك.
الأبطال: الأمير أحمدو ولد سيد اعل وفريق من المجاهدين... واكزافيى كبلاني ورهطه على (خوبة)الاك...
المشهد: وابل من الرصاص على خيمة كبلاني وقطيعه, الخيمة تحترق, قتلى وجرحى في صفوف القطيع, الخيل تقطع الحبال وتجرى مجفلة في كل اتجاه, وكبلاني يرتعد فاقد الصواب وهو يتابع عملا متقن الصنعة: لعلعة الرصاص وصهيل الخيل في عناق شاعري... والقطيع يعوي والدماء تنزف.. وبهذا يكون كبلاني قد مات مرتين: مات موتته الأولى ليلة 09/12/1903 في ألاك عندما انكسر تعاليه وبان زيف وعده وجلدت كرامته, ثم حرم متعة ورحمة الموت في هذه اللحظة الصادمة, ثم مات موتته الثانية في تجكجة ليلة 12/05/1905 على أيدي فرقة استشهادية بقيادة سيد ولد مولاي الزين وكانت حالة استثنائية فقل أن يقتل رأس حملة استعمارية...

1 التعليقات:
الغت عملية الاك وهم ومزاعم ما كان يسمى عملية التوغل السلمي للمستعمر الفرنسي في موريتانيا