فما
هي سمات عصر الانحطاط/ النهضة؟، وهل يمكن أن نطلق على ما وقع في بعض البلدان
العربية نهضة على غرار ما وقع في الغرب؟ وهل حصل ما يمكن أن نسميه نهضة في البلاد
العربية؟
تضاربت
الآراء حول الفترة التي وسمت بعصر النهضة القائمة على تيارات ثلاث: أحدهما يمتح من
الأصول الدينية والثاني يرد المعين الغربي والثالث تلفيقي توفيقي يسعى إلى الاتكاء
على التوجهين السابقين. وقبل أن ندخل في التحليل سنحاول تحديد بعض المفاهيم التي
قام عليها الفكر النهضوي العربي وقد اخترنا مفهومين اثنين مفهوم الإحياء، ومفهوم
التنوير.
فمن معاني الإحياء أو الإحيائية إعادة الحياة أو البعث، وأظن أن له علاقة
قوية بالفكر الديني خاصة أن دلالة البعث أو الإحياء مترسخة في الديانات السماوية
لأنه هو ميسم الحساب عند البعث؛ وبالتالي فمفهوم الإحياء مرتبط بحياة سابقة ولكن
هذه الحياة السابقة في الفكر العربي تتصف بالأفضلية على الواقع الموصوف، لذلك وجب
الرجوع إليها إلا أنّ زاوية النظر المتعلقة بالعودة هي محل الخلاف، فالبعض يرادف
بين الإحياء والتقليد أو يكاد، والبعض يرفض التقليد ويحل محله الغربلة والبعض
توفيقي ولكن في كل الحالات يحمل المفهوم إضافة تتراوح حسب التمكن في التجديد أو
الاقتداء بالسلف.
ومن
دلالات التنوير: " خروجُ الإنسان من حالة الوِصَاية "[1]
أي أن تتحقق فيه مبادئ عصر الأنوار وهي: مبأ
الرشد، ومبدأ النقد، ومبدأ الشمول. وقد تم
استعمال المفهوم في الدراسات الأدبية العربية دون اعتبار للحركية التي سبقته؛ في
القرون 13، 14 ، 15 في إيطاليا وإنكلترا وألمانيا وفرنسا بعد أن نضجت الحركة
وأصبحت تنويرا؛ يعني أن المفكرين العرب قاموا بترجمة المفهوم وإسقاطه على ما وسم
بالنهضة العربية منذ البداية دون أن يمتثلوا لقانون الطبيعة القاضي بوجود الشيء ثم
إطلاق تسمية عليه. أقصد أن الفكر العربي أطلق على بوادر المشروع النهضوي نهضة قبل
أن يتبلور المفهوم وذلك بفعل الترجمة.
ومن هذا المنطلق سنحاول تحديد بعض السمات
التي وسمت الفكر العربي في المرحلة الموسومة بعصر النهضة، خاصة أن الخطأ تكرر في
حركة محمد البوعزيزي 2011 عندما وسمت الحركات التي قامت في تونس ومصر وليبيا
واليمن وسوريا بالثورات العربية أو الربيع العربي في حين أننا نعيش ما يشبه النكسة.
وإذا ما نظرنا إلى المفهومين السابقين نجد أنهما يحملان دلالتين مختلفين
على الرغم من كونهما تسميتين لظاهرة واحدة. فكأن مفهوم الإحيائية يوحي بإعادة
الحياة من جديد عندما فقدت الثقافة العربية رتبة الريادة ولكن المقياس الأساسي تمثل في الاعتماد على الأصول أي
العصر الجاهلي والعباسي، وبالتالي تم التركيز على إعادة إنتاج الأصول، وذلك ما جعل
البعض يسم الفكر النهضوي بالتناقض إذ قام على ثنائية ضدية تعتمد الخضوع للأصول التي قام عليها مفهوم الإحيائية؛ وضرورة
التطور التي هي سمة مفهوم التنوير الذي يدعو إلى نبذ الوصاية والتقيد بالأصول على
الرغم من أن الغرب عاد إلى ما كتب الإغريق والرومان على غرار ما فعل الغرب قبلهم
ولكن الغرب لم يسمي حركة الترجمة نهضة حتى برزت سمات النهضة.
يمكن أن تكون هذه الازدواجية أو التلفيقية
التي قام عليها عصر النهضة العربية مصدر ثراء خاصة أن مشاربه متعددة تتصافح فيها الأصالة
والمعاصر، ولذلك بقي فكراً مفتوحاً على الحوار والمناظرات كما هي الحال في مناظرات
محمد عبده وفرح أنطون, طه حسين وساطع الحصري ولعل
وقع الحياة وضروريها وحاجيها هو ما دعا إلى هذه المقاربات المتباينة في الرؤية.
يبدو أن "عصر النهضة"
هو حركة متكاملة فكرية أدبية دينية ثقافية
اجتماعية سياسية، ظهرت بشكل ملحوظ حسب المفكرين العرب في لبنان نتيجة الحركات
التبشيرية التي قام بها الغرب في الشام بالإضافة إلى مصر وما خلفته حملة نابليون
وإصلاحات محمد علي باشا، بعد الفترة التي وسمت بالانحطاط وهي الفترة المملوكية والعثمانية.
ويبدو أن هذا التقسيم المرحلي حوله خلاف. فقد توصل جورج صليبا في "الفكر
العلمي العربي: نشأته وتطوره" إلى أن مرحلة الذروة في علم الفلك، بالنسبة
للعلوم العربية بشكل عام، كانت في الفترة الموسومة بعصر الإنحطاط ، ويستدل في ذلك بنظريات
نصير الدين الطوسي في كتابيه "تحرير المجسطي"، و"التذكرة في الهيئة".
فقد أفرد الطوسي فصلا كاملا للرد على علم الفلك
اليوناني وأقامة علم هيئة بديل، وقد ركز في هذا التمشي على نظرية كان قد اقترحها
بشكل مبدئي في كتاب "تحرير المجسطي"، ظهرت في أعمال كوبرنيك بعد ما يزيد
على مائتي سنة بالشكل الذي ظهرت فيه في "التذكرة". ولدعم موقفه بين جورج
صليبا أن حركية الإبداع في علم الفلك شملت عدة علماء كان من أبرزهم شمس الدين
الخفري الذي عاصر كوبرنيك.
وفي نفس المنحى سار الأديب العراقي طه الحاجري مستغربا من وضع الشعر
الشنقيطي في نفس السلة مع الأدب العربي في حقبة عصر الإنحطاط، خاصة أنه يتسم بسمات
الشعر الجاهلي الذي يتصدر في مجمله عمادة الشعر العربي في تلك الحقبة؛ وبالتالي
أكد الدكتور الحاجري أنّ الشعر الشنقيطي متميز على محطة عصر الانحطاط إذ لم يتأثر
بسقوط بغداد ولا بقدوم نابليون وما جلبه إلى مصر من معدات وقد أوجز رأيه في أن "الصورة
التي أتيح لنا أن نراها لشنقيط في هذين القرنين 12 و 13 هـــ جديرة بأنْ تُعَدِّلَ
الحُكم الذي اتفقَ مؤرِّخُو الأدب العربي على إطلاقه في هذه الفترة التي يغطيها
كتاب "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط""، مضيفا
أنه إذا كانت صورة الأدب العربي الذي أطلق عليه هؤلاء حكمهم ،تبرر ذلك "بما
تمثل من الضعف والركاكة والفسولة في صياغته وصوره ومعانيه"، فإن صورة الأدب
الموريتاني "تمثل لنا الأدب في وضع مختلف يأبى هذا الحكم أشدَّ الإباء".
وعندما ظهرت عدة كتب ضمت قرابة 150
شاعرا موريتانيا خلفوا أكثر من 12000 بيتا شعريا حسب ما هو منشور في "الوسيط
في تراجم أدباء شنقيط" لأحمد بن أمين الشنقيطي و"شعراء موريتانيا
القدماء والمحدثون" ليوسف مقلد و"الشعر والشعراء في موريتانيا" لمحمد
المختار بن أباه؛ وجد رأي الحاجري دعما ماديا ارتفع به إلى أن أضاف البعض أن
الإحيائية بدأت في بلاد شنقيط قبل مصر، من ذلك أن ولد رازكة رائد الشعر الشنقيطي،
قد توفي قبل البارودي بقرن ونيف، كما أن محمد بن الطلبة باعث الشعر الجاهلي في
بلاد شنقيط عاش قبل البارودي بما يزيد على 6 عقود وتوفي قبل ميلاد شوقي بأزيد من
عقدين، ونضيف أن وفاة ابن شيخ سديا صاحب العينية المشهورة التي عالجت قضية الأصالة
والمعاصرة كان سنة ميلاد شوقي.
ونحن هنا رغم توجهنا في محاولة دراستانا لضبط مفهوم الانحطاط والنهضة لا
نشك في أن الفترة كانت على درجة من التقهقر الواضح لعوامل عديدة، من بينها:
-
انغماس الملوك والسلاطين وحاشيتهم في
اللهو والمجون والابتعاد عن تشجيع الحركية العلمية والمجالس الأدبية أو السوق
الأدبية التي ميزت العصر الجاهلي كسوق عكاظ وغيرها من الأسواق الأدبية.
-
تولي غير العرب السلطة.
-
حرق المكاتب وإغراق الكتب في نهر دجلة حيث غير
الحبر لون الماء. فذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن التتتار "لم يدخلوا
بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال ...
وأتلفوا ما فيه بالنهب إن
احتاجوا إليه وبالحرق إن لم يحتاجوا إليه. وأضاف ابن خلدون في "العبر" "وألقيت
كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعا في دجلة وكانت شيئا لا يعبّر عنه".
وذكر
القلقشندي في "صبح الأعشى"يقال أنّ أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث
خزائن، إحداها خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد، كان فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة
ولا يقوم عليها نفاسة، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتار بغداد وقتل هولاكو ملكهم
المستعصم آخر خلفائهم ببغداد فذهبت خزانة الكتب فيما ذهبت، وذهبت معالمها وأعفيت
آثارها."
-
تعدد التسميات أو الأوصاف: عصر الانحطاط، أوعصر الانحدار،
عصر العثمانيين، أو العصر التركي، وعصر المملوكي، وعصر التتار أوالعصر المغولي،
وعصر الدول المتتابعة، أو العصور الوسطى الإسلامية، يتأكد لنا خلل في التمكن في
دراسة الحقبتين الانحطاطية والنهضوية، أو عدم قدرة الدارسين على تبني وجهة نظر
جامعة تؤكد التسمية أو التسميتين من جهة؛ ومن المفترض، من جهة أخرى، أن يعبر الأدب
عن الأمة وأحوالها، أو أن يكون ابن بيئته كما يرى النقاد ومؤرخو الأدب وذلك ما لم
يتحقق رغم بروز مفكرين وأدباء كبار في الحقبتين.
فمن
الطبيعي أن يتقهقر الإنتاج الأدبي عما كان عليه في عصور الازدهار أو ترتفع قيمته
الفنية في نفس الأيام باعتبار أن ثقافات أدبية وفنية ستنضاف إلى الثقافة العربية الإسلامية
عن طريق أدباء ومفكري البلاد المفتوحة أو عن طريق ترجمة أمهات الكتب. فلهذا ولأمور
عديدة بعضها بارز وبعضها لا يزال مختفيا تبين لنا، رغم الدراسات الغفيرة لعصر
النهضة وقلة الدراسات التي مني بها عصر الانحطاط، أن تسمية عصر الانحطاط لا تنسحب
على هذه الفترة باعتبار أن لكل جهة خصائصها واهتماماتها كما أن عصر النهضة كذلك.
يصف بعض الباحثين عصر النهضة بأنه تغلغل في الماضي ونكوص إلى التراث خاصة
أن نقاد ومفكري الجيل الأول استنبطوا أصولا أو قواعد مستنبطة من التراث العربي
القديم خاصة الفترة الجاهلية والأموية والعباسية أرادوا لها ان تكون قاعدة المنطلق
في ما أسموه عصر النهضة؛ وبالتالي ستكون النهضة تكرار لما كان لا لما ينبغي أن يكون؛
ويظهر ذلك جليا عند الشيخ الأفغاني ومحمد إقبال. فهذا الرجوع إلى الأصول رغم
أهميته سيؤسس لا محالة لمرحلة إعاد إنتاج هذا الأصل المنشود أو الرمس المفقود.
وهذا ما يوحي بخلل فني بينه الجيل الجديد مما جعل البعض يدعو للأصالة والمعاصرة،
أي مواصلة الثوابت وإضافة المتحولات أو الجديد الذي تميزت به الثقافة الغربية في
عصر الأنوار. ويبدو أن نقادا آخرين لم يرضهم تبعية البعض للغرب والافتتان بإنتاجه
دون سكبه في قوالب عربية إسلامية تصقل زائده وتضفي عليه الطابع العربي الإسلامي.
ورغم أحقية هؤلاء وتمكن أولئك من التراث العربي القديم، يمكن القول إن الاتجاهين
خلقا توازنا كان مفقودا قبل الحراك الثقافي اللبناني والمصري باعتبارهما مهد ما
سمي بعصر النهضة استباقا حسب الكثير من المفكرين والنقاد.
لم يكن نقاد الرعيل
الثاني بأوفر حظا من الرعيل الأول في الوصول إلى ما تمليه الضرورة والحاجة الملحة
رغم الرؤى والتطلعات الجديدة وانبهارهم بالغرب، إذ أن الأفكار الإحيائية لم تتبلور
في مشروع جامع موحد، وإنما سار كل ناقد أو مفكر حسب نهج استقاه من ثقافته وخلفيته
التعليمية فمنهم الإسلامي ومنهم المسيحي ومنهم التحرري. ولكن هذا المناهج حملت
عوائق متعددة منها قيامها على التقليد والتجديد، إذ لم يكونوا حلقات أو منتديات
على غرار حلقة براغ مثلا، بل انحصرت الأفكار بين ماض يسعون إلى التنصل منه كل على
طريقته، ومستقبل منشود مقارني لما للحضارة الغربية من تطوّر. وانحصرت الأسئلة
المشكلة في مأزق ثنائية الماضي والحاضر حيث تحكم الحاضر في الإجابة على الماضي
والعكس بالعكس.
فتحدث
مهندس النهضة رفاعة الطهطاوي عن التمدن لتأثره بدراسته في باريس مما جعله يؤسس
مدرسة للأسن من أجل تشجيع الترجمة، وبقي الواقع المتردي في باب المسكوت عنه رغم
اتفاق الجميع حوله؛ وتحدث طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر"
عن هوية متوسطة في رؤية إنسانية
شمولية؛ وعلي عبد الرازق عن الجديد في مواجهة القديم؛ ومحمد كرد علي عن رفض الحديث عن القديم،
وعبد الرحمن الكواكبي عن الاستبداد والشيخ محمد عبده عن الجمود.
وبناء على ما تقدم يتأكد لنا أن التسميتين عصر الانحطاط وعصر النهضة غير
دقيقتين على الوجه العام فليس الإنتاج الفكري العربي في الفترة الزمنية الموسومة
بعصر الانحطاط كذلك، ولا نجد حركة نهضوية ارتقت بهذا الإنتاج إلى درجة تخول لنا أن
نسمها بالنهضة أو التنوير وإنما بقي الإنتاج منشدا بين التوجهين. فلا وصف الانحطاط
ببارز تمام البروز باعتبار أن علم الفلك لم يعش تطورا أرقى من فترة عصر الانحطاط
ولم يرتق عصر النهضة بالفكرة العربي درجة تتماشى والوصف الموسوم به. وبالتالي يمكننا
أن نخرج بدعوة إعادة دراسة إنتاج فترة عصر الانحطاط على جميع الأصعدة كي نقف على
الداء ونختصر الطريق صوب النهضة.
يحي الصغير
2 التعليقات:
إصلاح بعض الأخطاء المطبعية:
1- مبدأ الرشد ...
2- على الرغم من أن الغرب عاد إلى ما كتب الإغريق والرومان على غرار ما فعل العرب قبلهم
إصلاح بعض الأخطاء المطبعية:
1- مبدأ الرشد ...
2- على الرغم من أن الغرب عاد إلى ما كتب الإغريق والرومان على غرار ما فعل العرب قبلهم