لاقتراحاتكم ومشاركاتكم يرجى مراسلتنا على العنوان التالي:alegcom@hotmail.com

الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

المواطنة (رأي)

الإنسان ابن بيئته كما يقال، فهو الذي عاش وترعرع في المكان الذي أنِس به وصار جزءا منه، لا يفارقه أبدا حتى وإن فارقه جسدا، المكان الذي انتمى إليه صغيرا، يكبر شيئا فشيئا معه ويلازمه، ينشأ بين أحضانه ويتدثر بنعمائه، ويتربّى في أرجائه، فهو الذي يشعره بالانتماء، فيدافع عنه بكل قوة، ولا يسمح لأي دخيل بأن يغيّر جوهره، أو يحاول طمس معالمه.

لكل مكان صفات، ولكل مكان أمنيات وذكريات، وذكريات الطفولة هي أشد وقعا على النفس من أي ذكريات، لأنها الفترة الأشد تأثيرا في الإنسان فيها يرضع لبن الوطن الغالي، وفيها يتشبث بعنصري الماء والحياة، لأنهما عنصران مهمان، ومكونان أساسيان لهذا الإنسان.

ولأن المكان ذكره القرآن الكريم في كثير من الآيات وتغنى به الإنسان شعرا ونثرا، صار مهمّا في حياة الإنسان، لأنه المأوى الحقيقي الذي يرتاح فيه، ويأوي إليه عند الشعور بالحاجة إلى لقائه، فالزمن كفيل بأن يجعل الإنسان يستشعر عظمة المكان عندما يغادره إلى مكان آخر، ويشعر كأنه فقد حبيبًا ويسارع إلى لقائه، حتى لو غاب فترة طويلة.

فكلما غاب أكثر ازداد شوقه إليه أكثر ويتمنى المكوث فيه أطول لولا الحياة الجديدة التي فرضت على الإنسان في بعض الأحيان أن يغادره إلى آخر بحثا عن الرزق أو لزيارة قريب، أو الحضور لاجتماعات أو ندوات أو مؤتمرات أو حتى قسرا أو نفيا وغيرها من الأسباب الكثيرة، ولكن في كل مرة تتفتق القريحة وتنبثق الألفاظ الصريحة لتعلن أن الشوق قد فاض حبًّا للمكان الذي كان فيه يصول ويجول، ذلك هو ما نسميه وطنا اليوم.

فالوطن انتماء وحسٌّ ومشاعر دفينة في القلب، يمنحك الدفء ويقدّم نفسه هدية لك، يفتح لك أبوابا ونوافذ تستنشق منها عبق الرياحين، وهو الحضن الذي يؤويك، والمهد الذي يحويك، ينقذك إذا سقطت، ويفرش لك بساطا أخضر تمشي في ربوعه شامخا، حرّا طليقا، رافع الرأس يشار لك بالبنان أينما حللت، وهو الذي يمنحك السعادة وراحة البال حينما تفتح له ذراعيك، اهتم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالمكان وإن لم تذكر كلمة وطن إلا أن المكان له دلالات عميقة على الوطن بمفهومه الحالي، فهناك أماكن بعينها أقسم الله سبحانه وتعالى بها، مثل قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد).

قال أبوحيان في البحر: (أقسم بها لما جمعت من الشرفين؛ شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله  «صلى الله عليه وسلم»  فيها وإقامته بها، فصارت أهلا لأن يقسم بها( وهناك سور حملت أسماء أماكن مدن (الحجر، سبأ) وجبال (الطور) وأماكن خاصة (كالحجرات).

فإن القرآن الكريم لم يقف عند هذا الحد فإنه في كثير من المواضع ذكر المكان بمفهومه العام (المطلق)، فذكر سموات وأراضين وجنان وحدائق ذات بهجة، وألحق هذه الأماكن بأوصاف تلفت انتباه القارئ إلى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى في خلق هذه الأماكن وتحويلها من حالة إلى حالة، فاقرأ إن شئت قول الله تعالى: (أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم ان تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون)

عندما ينظر الإنسان لوطنه تنتابه حالات من الحنان ورعشة وارتجاف في الجنان ورغبة في استنشاق هوائه الطبيعي النقي، ولا يعيش غربة إلا في بلاد الغرباء، بل إنه يستقطب عناصر أخرى لم تنبت في تلك القطعة من الأرض لأنه منحها الثقة والأمن في النفس والمال والولد، فيحلّق بعيدا معلنا أنه رزق من السماء شاكرا الله عز وجل على نعمه التي لا تحصى ولا تعدّ،  ومن هنا كان حبّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة وهو يضرب لنا نموذجا رائعا لحب الوطن، كيف لا وهي المدينة التي ولد فيها ونشأ بين واحاتها، ورعى الغنم في ضواحيها واشتغل بالتجارة في أسواقها وصحاريها

كيف لا وهي المدينة التي نزل فيها الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ريعان شبابه، ذاق عسيلتها، وكان مذاقها حلوا طريا، تشرّب من معينها، حوى الناس بأخلاقه وأمانته فأحبّوه جميعا، ولكن في وقت الشدة وفي وقت الحسم نكس القرشيون رؤوسهم ذات مرّة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن دينًا جديدا قد أتى، وأن قرآنا سينزل يتلى، وأن ربًّا واحدا سيعبد، ضجّ المشركون ومنهم أقرب الناس إلى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتوعّدوه وجنّدوا شبابهم لقتله حينها أمره المولى عزّ وجل بالهجرة إلى المدينة المنورة، حفاظا على نفسه وتهيئة له لإقامة دولة الإسلام القائمة على العدل والإنصاف ونبذ العنف والإرهاب، دولة قائمة على التسامح والتآلف والتعاون والصفح والعفو

تلك هي الدولة القوية التي استطاعت أن تقهر العدوّ وأن تجلي الخوف من قلوب المؤمنين، نظر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حسرةً على مكة وهو يغادرها وقال قولته المشهورة: « والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» وفي رواية أخرى « ما أطيبك من بلد إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك»، فيها آيات الحبّ والولاء للوطن المعطاء، الوطن الذي أمدّ الإنسان بنفحات الخير والعطاء، وهذا المعنى الحقيقي للانتماء.

فحبّ الوطن لا يعني أن تحبّه بقلبك فقط، فهذا لا يكفي على الإطلاق، بل لا بدّ أن تفكّر في إعماره والمحافظة على مكتسباته وطبيعته، والعمل من أجل رقيّه وازدهاره، وإلا ما رجع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة بلده الجميل والأنيق، وكان أول ما فعله التحاور مع الأعداء رغم أنه قادر على نسفهم وهو في موقف قوة، حاول أن يجعل الجميع تحت راية الإسلام فدخل من دخل وبقي من بقي

فأقام العدل والمساواة واستتب الأمن والأمان في كل ربوع مكة المكرمة، يرغب الوطن أن يرى أبناءه منتجين لا مستهلكين فقط، مبدعين في كل المجالات، مقبلين على الحياة بعزم وإصرار لا يتكاسلون عن أي عمل، يهتمّون بما حواه الوطن، وما حماه، وما بناه، وما تعب من أجل أن ينعم المواطن به من رفاهية العيش الكريم والحياة الهانئة السعيدة دون كدر ولا ملل

الوطن الذي يعطي ويمنح مواطنيه العزة والكرامة والعدل والمساواة، وهو الذي يبذل الغالي والنفيس من أجل الاستقرار وبسط الأمن في البلاد فعندما نتحدث عن الوطن، تلتهب في صدورنا الغيرة عليه، ولا نسمح لأي متهوّر أن يعبث بمقدراته، فنشمّر عن الذراع لندافع وننافح عن كل شبر من الأرض، ونعمل بكل إصرار وعزيمة من أجل أن تكون البلاد في خير عميم بعيدا عن كل ما يعكّر صفوها، ويشتّت شملها، ويفسد أمنها، ولا ننسى أننا نعيش في ظله، نستنشق هواءه، ونستفيد من خيراته، لذا كان لزاما علينا أن نرد الجميل بالجميل لا بالإساءة إليه أو نكران النعم

فالمؤمن وطني بطبعه يحرص على العمل بإخلاص وتفان من أجل رفعة وطنه ورقيه وازدهاره، ومن أجل أن يعمّره ويدافع عن مكتسبات حقّقها طوال سنوات لذلك فالعلاقة بينهما حميمية وباقية ما يقي الإنسان على الأرض

المواطنة  –

ينطلق الإسلام في نظرته إلى المواطنة من منطلق العدالة والمساواة التي تعتبر الأرضية الحاضنة والسمة البارزة لمفهوم كرامة الإنسان وإنسانيته باعتباره مخلوقا كرّمه الله سبحانه وتعالى وفضله على كثير من مخلوقاته ، قال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (الإسراء :70).

و قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام». (النساء :1)كما أقر الإسلام بالتعددية على المستوى التكويني من خلال الإقرار بسنن التعدد الإلهية قال تعالى: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة» (المائدة : 48) .

كما أقر سبحانه وتعالى بالتعددية على المستوى التكليفي بإقراره تعدد الشرائع ، ولهذا فإن الإسلام لم يرفض تعدد الانتماء الديني في الأمة الواحدة دون أن يمس وحدة الأمة ، ولذلك نجد الكثير من الآيات القرآنية تدعو إلى المشترك الإنساني بين هذه الأديان وإلى الكلمة السواء في إطار عبادة الخالق عز وجل ، ونبذ الشرك ، قال تعالى ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً) (آل عمران : 64).

والحكمة الإلهية جعلت الأمم تختلف فيما بينها وهذا ليس بحالة طارئة على الإنسانية أن تختلف وإنما كما أخبرنا القرآن الكريم بأنها سنة أزلية « أبدية قد فطر الله عليها جميع المخلوقات .. فلم ولن يكون الناس نمطاً واحداً أو قالباً فرداً ، وإنما كانوا ولا يزالون مختلفين (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود :119،118).

و إذا كانت الإنسانية و البشرية قد بدأت بآدم وحواء – أمة واحدة ،في الدين والشريعة – فإن تحول هذه الأمة الواحدة إلى أمم قد اقتضى التعددية في شرائع الرسل بتعدد أمم الرسالات ، فكانت سنة التعددية منذ فجر تاريخ الإنسان … (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(البقرة :213 ).
وقد تجسد مبدأ المواطنة بحق في الإسلام عندما برزت الأخوة الإسلامية المتساوية في بداية الدعوة الإسلامية ، أولاً في مكة ، ثم بعد ذلك في المدينة المنورة حيث سعى هذا الدين القويم إلى تجسيدها واقعياً وعملياً من خلال التضحية والإيثار بين المهاجرين والأنصار «إذ تنازلوا طواعية واختياراً وإيماناً ، بحيث لم يسجل التاريخ البشري أعمق فخراً ، ولا أنبل أخوة ، و لا أصدق تجربة لها أكثر من هذه ، بل تبدو مضامين «المواطنة « المعاصرة أمامها شاحبة وباهتة مهما بلغت من النجاح ومن الديمقراطية . صحيح أن الثقافة الإسلامية لم تعرف المفهوم الجديد للمواطنة ، ولكن عرفت مضمونه بدلالاته الغنية أخوة وإنسانية وتضحية وإيثاراً وشورى فلا مشاحنة بعدها في التسمية والمفهوم.
إن التاريخ شاهد على أن هذا المبدأ الإسلامي الكبير «الأخوة الدينية» هو السبب الذي من أجله انضوت الأفراد والجماعات تحت الراية الإسلامية ومثل أساس نجاح دعوته ، وقد نجح السلف الصالح في فهم السياسة على أنها شورى ، وفن التدبير ورفع شأن العقل والكرامة الإنسانية حتى أضحى ذلك ميزة ورمزاً من رموز الاجتماع وأساس العمران والحضارة الإسلاميين والمجتمع العربي الإسلامي.
وقبل ظهور الإسلام وإقامة دولة المسلمين في المدينة كانت هناك تجارب سياسية عربية فرضها التطور التجاري والاستقرار بمكة المكرمة من خلال التقاليد القبلية تبرز قيم التشريعات القبلية بهذه المنطقة العربية . ومنها حلف الفضول الشهير الذي أسس لنصرة المظلوم ، ومواجهة الظالم يردوا إليه مظلمته ، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وقال عنه (صلى الله عليه وسلم) « لو دعيت إليه لأجبت » ، إن جوهر فكرة الحلف يقوم على رفض الظلم والتمييز مهما كان نوعه ، سياسياً أو مدنياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً . وقد اغتذت وتعمّقت فكرة الحلف بالقيم والمبادئ التي تستند إلى التسامح التي جاء بها القرآن الكريم وفي ذلك مقاربة العرب والمسلمين لفكرة التسامح منذ ما يزيد عن 1400 سنة ، حيث كان لهم رافدهم الثقافي للحضارة الإنسانية أسوة ببقية الأمم والشعوب التي تبحث في تاريخها وتراثها عما يدعم الفكرة المعاصرة الخاصة بالتسامح بدلاً من التنكر لها أو تجاهلها أو الصد عنها.
إن فكرة حلف الفضول وما يمثله من ثقافة وإرث تاريخي هي رد على بعض الاتجاهات السائدة والمتنفذة في الغرب التي تعتبر العرب والمسلمين وكأنهم في تناقض كلي مع فكرة التسامح وحقوق الإنسان.
ولذلك فإن الإسلام بمفاهيمه ومنظوره الإنساني قد أصّل مبدأ المواطنة بفضل ما يحمله من مبادئ الوحدة الإنسانية . كما جاءت في الآيات الكريمة « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم » [ سورة الحجرات ، الآية 13 ] . و قوله سبحانه « يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام » [ سورة النساء ، الآية 1 ] . و كذلك قوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين » [ سورة النساء ، الآية 135 ].
وقد انطلق الإسلام في نظرته للمساواة من أن السلم هو العلاقة الأصيلة بين الناس . وعلى هذا الأساس بيّن الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض ، وفيما بينهم وبين غيرهم من مواطنيهم أو من الأمم المختلفة . وقد كان غير المسلمين إذا احتفظوا « بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية ،  يتعاونون على خيرها العام ، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة و الموعظة الحسنة».

وإلى جانب المساواة فقد كانت مبادئ العدل و القسط و الإنصاف من المبادئ الجوهرية التي أكدها الإسلام ، وجاءت بها آيات القرآن الكريم « إن الله يأمر بالعدل و الإحسان » [ سورة النحل ، الآية 90 ] و « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » [سورة النساء ، الآية 58 ] . وقد كان أمر الله بالعدل ( أمراً عاماً ، دون تخصيص بنوع دون نوع، ولا طائفة دون طائفة ، لأن العدل نظام الله وشرعه  ، والناس عباده و خلقه ، يستوون – أبيضهم و أسودهم ، ذكرهم و أنثاهم ، مسلمهم وغير مسلمهم – أمام عدله وحكمته.
كما تعتبر صحيفة المدينة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سكان يثرب أول دستور مكتوب في العالم الذي يؤسس لحقوق المواطنة الكاملة بمقاييس عصرنا، ويحدد الحقوق والواجبات لهذا المجتمع المدني الإسلامي الوليد في ذلك العصر . ولم تقتصر مواد هذه الصحيفة على المسلمين فقط ،

بل ضمنت أيضاً الطوائف والتكوينات الأخرى من غير المسلمين كاليهود وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، واعتبرتهم أمة واحدة من دون الناس ، ولذلك نصت هذه الوثيقة الدستورية على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني هذه الدولة الوليدة ، وحددت مالهم من حقوق وما عليهم من واجبات . ففي فقرتها (25) تقرر الوثيقة أن « يهود بني عوف أمة مع المؤمنين . لليهود دينهم و للمسلمين دينهم ، مواليهم و أنفسهم ، إلا من ظلم و أثم ». ولا يقف الأمر عند يهود بني عوف وحدهم ، و إنما تمضي النصوص من الفقرة (26) إلى الفقرة (36) لتقرر لباقي قبائل اليهود مثل ما تقرر ليهود بني عوف .

بل إن بعض النصوص تشير إلى واجبات على المشركين من أهل المدينة مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة و خضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها .

وأوضح هذه النصوص هو نص الفقرة (20 ب ) الذي يقرر « أنه لا يجير مشرك مالا لقريش ، ولا نفساً ، و لا يحول دونه على مؤمن » . و هكذا يتبين أن عنصر الإقليم ( المدينة ) و الإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هو الذي أعطى هؤلاء اليهود و المشركين حق المواطنة، و ضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم.

لهذا جعلت صحيفة المدينة بصورة جلية لا لبس فيها ولا غموض أن المواطنة حقوق من حقوق المواطنين باعتبارهم كما نصت الوثيقة المسلمين وغيرهم من سكان المدينة أمة واحدة ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم ، فاختلاف الدين ليس بمقتضى أحكام الصحيفة سبب للحرمان من مبدأ « المواطنة » كما كان ذلك مطبقاً في الدول التي عاصرت الدولة الإسلامية في بدء تكوينها.

عبد لله الدي مسعود (هامس)

0 التعليقات:

إعلان