لاقتراحاتكم ومشاركاتكم يرجى مراسلتنا على العنوان التالي:alegcom@hotmail.com

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

من وحي ذكرى الاستقلال


الأستاذ المرتضى ولد محمد اشفق
رغم ما يغلب على  البعض من رواج فكرة المؤامرة, وتغليب الريبة والتهمة في ما يجري من أحداث وما ينجر عن تلك الأحداث من نتائج تعلو وتهبط بقدر ما يبذل في سبيلها من تضحيات, ورغم حرص البعض على أن يرى في كل نور ظلمة, وفي كل حق باطلا, وفي كل نعمة نقمة,  تبقى ذكرى 28 نوفمبر غالية عزيزة على قلب كل موريتاني سوي الطبع سليم الرأي صحيح الاستنتاج... كم ارتاب قوم في 28 نوفمبر وكم خونوا من قطفوه ثمرة ينعت بعد طول سقي بدما ء الشهداء العطرة التي روت الصحراء وكللت الجبال بتيجان العزة والإباء... كم حاول البعض الالتفاف على ذكرى ميلاد الدولة ورخصوها وسموها صفقة مفلسة ومهزلة سياسية قذرة لعبتها فرنسا ضد الأمة الموريتانية.. وكم رآها البعض إجهاضا بل إعداما لمستقبل موريتانيا وإنقاذا لفرنسا المنهكة.. كم حاول آخرون تحريف الأحداث وإساءة قراءة التاريخ بل تزويره وتدنيسه... كم حاولوا أن تتعدد ولادات موريتانيا مع كل حقبة وكأن قدر هذا البلد الأمين ألا يولد حتى يعود إلى الأرحام و يظل فيها مترحلا متنقلا مع ألسنة الصحراء التي تحاول أن تبلع البحر والناس...
نحن الآن نرى تباشير تلك الذكرى تزين الآفاق, وتحرك المشاعر, وتستنطق التاريخ... والزمان يقف مترقبا جلال الذكرى محتفيا مجلا... وهنا يحرك فينا العبق الزكي روح العرفان والإكبار للأرض التي شهدت ميلادين عظيمين تدين لهما الأمة والوطن: "ميلاد مقاومة وميلاد أمة".
لما ضرب اكزافيا كبولاني خيمته على كدية ألاك (الخوبة مقر المباني الإدارية الآن) ما كان يقدر أن حدثا خطيرا سيواجهه وهو الذي أقنع موفديه أنه سينفذ  فكرة الاحتلال السلس لأرض البيظان.
وللمصطفى ولد الطلبة قصة... استجاب العلامة الحاج أحمد ولد المنجى لطلب أهل الرأي والمشورة من قومه ليتولى القضاء, فقبل لكن بشرط... وكان لا بد أن يأخذ على ذلك ميثاقا غليظا: أن يقبلوا كل ما يشير به عليهم... شرط  بسيط: أليس الرجل موكولا إلى علمه وورعه ؟ فأجابوا جميعا بـ"نعم" إلا واحدا قال:  نطيعك ما أقمت السنة... تقييد رجل من صنف آخر يعرفه القاضي المعد وكانت الفرصة سانحة لإظهار المضمر وكشف المستور... قال الحاج أحمد أنت لها إذا والله ما نرى أحق منك بهذا الأمر...
 تباينت آراء العلماء وأصحاب الرأي من دخول المستعمر البلاد, فمنهم من رأى أن البلاد لما تعيشه من فوضى وغياب سلطة مركزية متمثلة في إمام يرجع إليه الناس ويقيم أحكام الله في بلاد الله, ونظرا لفوضى السلب والنهب وتسلط الضعيف على القوي, ونظرا للحروب القبلية المستمرة بلا توقف يرى قريبا في الأفق, نظرا لهذا كله وغيره فأن تقبل دخول فرنسا التي لن تضايق الناس في تطبيق شعائر دينهم بل ستوفر لهم الأمن والعيش الكريم, هذا مع قوتها عددا وعتادا وضعف المسلمين في هذا المنكب مقارنة بها, نظرا لهذا أيضا فان مساعدتها تعد ارتكاب أخف الضررين, ورأى بعض وهم الأكثرون – لأن رفض المستعمر هو الحالة الطبيعية وتقبله حالة استثنائية- رأوا أن مقاومة النصارى وحربهم واجبة في إطار الجهاد فان لم يكن للمسلمين حول ولا قوة على ذلك فالهجرة, إذ لا تجوز أن تتراءى نار مسلم وكافر, وإن كلما يقدمه النصارى من هدايا ومساعدات سم في دسم... مثل الجانب الأول الشيخان الجليلان: الشيخ سعد بوه والشيخ باب ولد الشيخ سيديا ولهما رسائل وفتاوى تدعم موقفيهما مثل رسالة الشيخ سعدبوه المسماة: النصيحة العامة والخاصة في التحذير من محاربة لفرانصة, ومنها رسالة الشيخ سيدي باب التي يقول منها: (أما بعد فان هذه الإفريقية الغربية لم تزل منذ قرون بلادا سائبة يتقاتل أهلها ويتظالمون ويفقدون مصالح عظيمة ومرافق كثيرة إلى أن غلبت عليها الدولة الفرنساوية فحقنت الدماء وحفظت الأموال وصلحت الأحوال فوجب شكر الله على هذه النعمة العظيمة وشكر هذه الدولة المصلحة) ومن الطرف الآخر الرافض لقدوم النصارى جل العلماء وأصدر بعضهم رسائل وفتاوى لدعم فكرة الجهاد أو الهجرة , من هؤلاء العلامة سيدي المختار ولد أحمد الهادي اللمتوني التمدكي, ومنهم محمد العاقب ولد ما يابى الجكني الذي يقول في "كركليته":
...تا الله ما لكافــــــر عهد ولا *** له ألية اذا مـــــــــــــــــا يأتلي
هيهات أن يؤمن كافـــــر وهل ***  ترجو سخال الضان أمن الجيثل
ومن يحكم كافــــــرا في نفسه ***  لا غرو إن باء بــــــــــشر مقتل
وعد النصارى كذب وعدلـهم *** جور وميرهم وخيــــــــم المأكل
وسلمهم حرب وبذل مالــــهم *** تغلـــــــــــــــــب بالكيد والتحيل
..لا تتراءى نار مسلم وكافـر *** نهــــــــــى عن ذاك خير مرسل
والجور والإسلام في بلادنا ***  خير من العدل مع الكفر الجلي
...الخ
وأفتي المصطفى ولد الطلبة بعد أن رأى أمة النصارى تحتل البلد بوجوب المقاومة أو الهجرة... وقدم فريق المجاهدين العزيمة على الرخصة... وكانت ليلة 8-9 دجنبر 1903 ليلة ذات شأن أي شأن.. حزم الأمير أحمدو ولد سيد اعل وفريق المجاهدين أمرهم وأبرموه بليل... لم يكن اكزافيا كبلاني يقدر- كما قلنا ونشرنا في حديث سابق بعنوان: الرصاصة الأولى – لم يكن يقدر أن بداة سمرا سيحطمون كبرياءه ويحولون حلمه الجميل بإنجاز مشروعه الاستعماري في تلك الليلة إلى كابوس مروع ظل يطارده إلى أن قتل... إنها أول رصاصة أطلقت في المقاومة الموريتانية منذ دخول الحملة الاستعمارية بقيادة كبولاني دشنت ميلاد مسلسل جميل في المقاومة الوطنية  صاغه الموريتانيون من مختلف الجهات والألوان والأعراق وقدموا فيها مواكب من الشهداء سطروا بدمائهم ملحمة الكفاح المسلح لتحرير أرض الإسلام من سيطرة المحتل الكافر...
ويكتب كبلاني قائلا:
من السيد/ كبولاني مندوب الحاكم العام لإفريقيا الغربية في أرض البيظان إلى جماعة اجيجبه بالخصوص محمد عبد الجليل:
عندما أعلنت لكم قبل خمسة أشهر نيابة عن الحكومة الفرنسية من أجل سلامة الجميع وأمن التجارة,  أننا سنتولى الإدارة الفعلية لبلاد البيظان التي كلفنا العلي القدير بحمايتها من أي هجوم وخاصة ضد النهابين ذوي النوايا السيئة, رأيت فيكم رجال خير جعلتني صفاتكم كرجال دين وآداب - آمل أن أكون غير مخطئ في الاختيار – وكنت مقتنعا أن ولاءكم خالص وأن حرصكم على العيش في أمن مشرفين ومحترمين كان كذلك, ويبدو أن كل هذا كان خطأ, فأثناء غيابي لم تحاولوا فحسب توحيد المحاربين ضدنا, بل كنتم الدليل والسند لسيئي ادوعيش وذوي النوايا السيئة والعدوانية اتجاهنا, وآمل أن يكون كل هذا غير صحيح رغم أن امتناعكم عن المجيء لتحيتي وتحية الحاكم العام يعتبر دليلا لا يقبل الشك على ذلك, لقد آن الأوان لمعرفة الحقيقة... ومواصلة لمهمة السلام التي أسندتها الحكومة إلي فإنني أتوجه إلى الشمال بغية تنصيب الفرق وأخذ الإجراءات اللازمة لتوفير سلام دائم لأصدقائنا ومعاقبة أعدائنا, وإذا كنتم كما أرجو تنتمون إلى المجموعة الأولى فاتصلوا بي فورا لتتسلموا مكانتكم في بلد لبراكنه وتزرعوا أرضكم ولتتنازلوا غدا عن علاقتكم بأعدائنا وستنالون جزاء ذلك خيرا كثيرا وفي الحالة المعاكسة فسأكون مضطرا مع أسفي العميق إلى اعتباركم عدوا وإلى أخذ الإجراءات الخطيرة المترتبة على ذلك.
ويمضي الزمن خطوة تلو أخرى ويطوي القرن العشرون صفحته الـ58 من مائته لتشهد نفس الأرض بحجارتها المتناثرة في صمود وتحد لعاديات الزمن وأفاعيله, بسهولها المنبسطة وأشجارها الملتفة المتراصة في عناق وحدوي متين, بهضابها الدكناء المتلفعة بسمرة ابن الصحراء تشهد حدثا آخر هو ميلاد كيان...  وبين جد وحفيد سطرت حكاية شعب (المصطفى ولد الطلبة هو جد معروف ولد الشيخ عبد الله لأمه).
مايو 1958  كان الموريتانيون على ميعاد في ألاك ليضعوا اليد في اليد والقلب في القلب ليتحدوا ويجمعوا أمرهم على تجاوز الخلافات وتذويب المعيقات وتذليل العراقيل من أجل توحيد هدف كبير هو تحويل الوطن من الحلم المضطرب إلى الحقيقة الثابتة... من دعوة إلى هناك وانحياز إلى هنالك, إلى إيمان بالذات وثقة في النفس,  إلى صهر للجهود ونداء بصوت واحد عبر حناجر كثيرة طلبا لتحقيق أغلى هدف وأعز أمل: الوجود والحرية.
 ارتبط مؤتمر ألاك باسم شخصية وطنية كبيرة عايشت وشاركت في الإرهاصات الأولى لميلاد الدولة الموريتانية وانتقالها من مرحلة البدو والترحال وتحكم القبيلة والجهة إلى دولة عصرية تذوب فيها الفوارق وتتعانق فيها الأفكار والأعراق والألوان لكتابة نص جميل هو الجمهورية الإسلامية الموريتانية… إذا ذكر مؤتمر ألاك تستحضر الذاكرة الجمعية السيد معروف ولد الشيخ عبد الله رفيق درب الرعيل الأول من أبناء موريتانيا الذين شقوا لها الطريق رغم الأشواك وصعوبة التضاريس, ذلك الرعيل الذي أمسك الشعلة في بحار مضطربة من الظلام الدامس, المائجة بالمكائد والمؤامرات… رعيل أدرك أن الحرية أغلى من الحياة وأن من خطب الحسناء لم يغلها المهر..
نعم كان معروف رفيق درب الرجل المعجزة: المرحوم المختار ولد داداه.. كان المختار رحمه الله معجزة بكل المقاييس ولم تسلم مكانة الرجل وإنجازه الكبير أيضا من محاولة النكران... حاولوا إخضاع النص الأصيل لمعايير النص الهزيل, حاولوا قراءة الرجل بمفرزات سقيمة لأفكار الإيديولوجيات الرخيصة...
كان طلب معروف استضافة المؤتمر في ألاك مغامرة كبيرة لما يترب على تجمع بهذا الحجم من وسائل وظروف وإمكانات هائلة لا يمكن أن تقدر نظرا لانعدام تصور دقيق لحجم من سيحضرون,  يقول المختار ولد داداه عن مؤتمر ألاك: (…كان بمختلف المقاييس تجمعا كبيرا للموريتانيين, فقد توافدوا من كافة أصقاع البلاد حتى إنه كان من بينهم وفد من موريتانيا الأسبانية أو على الأصح الصحراء التي تحتلها أسبانيا  بقيادة خطري ولد سعيد ولد الجماني), لكنه في نفس الوقت كان تعبيرا عن الثقة في الله أولا ثم في النفس والقوم الذين هبوا وقفة رجل واحد واعتبروا المؤتمر امتحانا لا بد أن يتجاوزوه بدرجة مشرفة جدا… وتوافد الموريتانيون من كل الجهات ومن شتى القبائل ومن مختلف الألوان والأعراق والأفكار والمشارب والأعمار لشهود عرس سياسي فريد دعوا له جميعا بالرفاه والبنين… فتساوقت الأفكار وازدحمت الآراء لكن الصدور كانت أرحب والعقول كانت أدرك لعظمة المقصد وقدسية الهدف…؟؟؟
يقول المختار ولد داداه:
"وأخيرا تمكن المؤتمر من اختتام أعماله بصورة مرضية وأصدرت قرارات تمت مناقشتها باستفاضة وتم إقرارها بديمقراطية من أغلب الموريتانيين, وكانت القرارات الأساس تتعلق بالسياسة العامة والسياسة الداخلية والترقية الاجتماعية, وتوجنا تلك القرارات بنداء موجه إلى فرنسا.
وهذه أهم القرارات بشأن السياسة العامة - والكلام دائما للمختار- :
-         يعلن المؤتمر عن صهر حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني وحزب الوئام الموريتاني في حزب واحد هو حزب التجمع الموريتاني
-         يقرر الدفاع عن وحدة التراب الوطني الموريتاني ضد كافة التهديدات أيا كان مصدرها
-         يقرر بقاء موريتانيا جزءا من مجموعة إفريقيا الغربية الناطقة بالفرنسية مع الاستقلال الداخلي التام والرغبة في نيل الاستقلال الوطني
-         يقرر ربط علاقات حسنة مع حزب التجمع الإفريقي والتجمع الديمقراطي الإفريقي بغية تحقيق عمل متكامل مع هاتين الفئتين المتنازعتين على ألا تنحاز موريتانيا لأي منهما دون الآخر
-         يعرب عن كامل تحفظه تجاه إنشاء "حكومة عليا" و "برلمان أعلى" في داكار
-         يعلن رفضه القاطع لأي انضمام سياسي أو إداري إلى منظمة عموم الأقاليم الصحراوية, ويوصي بعقد اتفاقيات اقتصادية معها على أن يتم التفاوض على تلك الاتفاقيات بحرية تامة.
-         وأقر إعادة تنظيم العدالة وتحسين أدائها اعتمادا على الشريعة الإسلامية.
-         كما أقر توحيد الضرائب ووضعها على الدخل دون تمييز بين الموظفين وأن يخضع للخدمة العسكرية جميع المواطنين القادرين دون تمييز أيضا... وأقر العمل على تحسين نوعية تعليم اللغة العربية وتعميمه والوصول به إلى مستوى التعليم الفرنسي مع تشجيع وتطوير تعليم البنات..
ووجه المؤتمر نداء خاصا إلى فرنسا يطلب منها فيه وضع حد  للحرب في الجزائر وبدء المصالحة مع البلدان العربية واختتم مؤتمر ألاك أعماله بانتخاب لجنة تنفيذية مؤقتة.
ويواصل المختار ولد داداه قائلا: وقد أغاظت توصيات المؤتمر في مجملها الوالي "موراك", فقد كان أعلن لرؤسائه مسبقا ودون تبصر منه أن المؤتمر لن يتمخض عن أي مفاجأة, فكذب مضمون قرارات المؤتمر تنبؤه ورأى فيها "بذور قومية عربية خطيرة على مستقبل نفوذ فرنسا في موريتانيا وباقي مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية".
نهنئ الشعب الموريتاني إذا بذكرى عيد الاستقلال الوطني... ونهنئ مدينة ألاك بذكرى ساهمت في خلقها ذات ليلة وذات يوم...

0 التعليقات:

إعلان