لاقتراحاتكم ومشاركاتكم يرجى مراسلتنا على العنوان التالي:alegcom@hotmail.com

الأربعاء، 15 يونيو 2011

الندى / الذكرى العاشرة لرحيله الحلقة (3)


الأستاذ المرتضى ولد محمد أشفق
أي منا اليوم لا يحب أن يحمد على ما لم يفعل.. أي منا لا يطمع أن يرى الناس سقطاته ومساوئه مزايا وخصالا.. من منا لا يطرب للمديح الزائف تلهج به ألسنة الكذابين؟ لكن عملاقنا - وأي عملاق هو- كان كالغيث يتصبب برفق فيملأ السهول والأودية والناس نيام, بلا برق ولا رعد ولا عاصفة, يستيقظ الناس فيرون السيول الجارية والأراضي الملأى والأرض تتشقق ليخرج منها سر الحياة.. فيستبشرون ويأملون ويسعدون... كان الندى حريصا على فعل الخير لكنه كان أحرص على ألا يعلم مواسوه من المواسي... كان يعطي وينفق لكنه كان يخاف أن يعرف... فكم فاجأ أسرا والظلماء عاكفة بزاد تحتاجه واختفى قبل أن ينتبهوا إليه... كم يتيما كسا وكم معدما أعطى.. وكم جائعا أطعم.. ما ذا نحصي وندى الندى بحر ليست له شطآن... يصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله هذا القرءان فهو قائم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق).

تميز الندى بالتزام مرجعية دينية صحيحة.. كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... وهو يعيش في مجتمع بدوي ككل مجتمعات الوطن التي تستقي من مرجعيات شتى فيها كثير من التخليط والتشويش والقلق لمن يحاول أن يقصي من الإسلام بعض الشوائب التي لصقت به، وبعض المفاهيم البعيدة عن جوهره... ذلك أننا كما قلت سابقا كنا نعتمد مرجعيتين: مرجعية صوفية يبتعد بعض منتسبيها بها عن أصلها الصحيح, ومرجعية فقهية فروعية، تكرسان معا ارستقراطية دينية سائدة فيها شخصنة للدين واستبداد مرجعية الشخص على حساب مرجعية النص... وكان النقص العلمي والعقدي خاصة يعوض بحديث الخوارق التي تحدث للصالحين فما جاز أن يكون معجزة لنبي يجوز أن يكون كرامة لولي.. أما الولي عندنا فهو من يعرف الغيب وتتكشف له الأمور قبل حدوثها... فإسلامنا إسلام في المسجد وشهر رمضان وحج البيت... الخ لكننا خارج هذه الظروف نكون قوما آخرين,  جاهلين أن حياة المسلم كلها ينبغي أن تكون إسلاما.. عليه أن يتجنب الكذب والغش والسرقة والخيانة وأعراض المسلمين والمال الحرام الخ باختصار يجب أن تكون حياتنا تجسيدا لأوامر الله اجتنابا وامتثالا...

لهذا يروى أن الشيخ محمد عبده لما زار أوروبا ورأى فيها قيم العدل والمساواة وغيرها من قيم الإسلام التي افتقدها في المسلمين, قال: رأيت في أوروبا إسلاما بلا مسلمين، وتركت في الشرق مسلمين بلا إسلام.. وقال روجى كارودي الفرنسي الذي اسلم, إنه يحمد الله أن عرف الإسلام قبل المسلمين, في هذا الجو اتضح للندى الذي يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع قال: (...تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي...) ولم يقل تركت فيكم أبا بكر أو عمر وهما خير الرجال، اتضح للندى إذن أنه لامناص من الاستقاء من الأصل ونبذ مفرزات العقول السقيمة, والابتعاد بالدين عن مزالق الأفهام الرخيصة ومتاهات الخرافات والأساطير التي تنم عن الجهل وضعف العقيدة, لكن الداعي الناجح لا بد أن يبتعد عن التصادم... وهكذا كان الندى يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة مستعينا بالبرهان الساطع والقريب، كان يقول لك إذ استغثت بغير الله: لو كان أمامك رجلان أحدهما قوي وسخي والآخر ضعيف وبخيل أيهما تطلب؟ ..سيجيب أبسط الناس وأعمقهم, أذكاهم وأبلدهم بنفس الجواب...

قدر لنا (أنا وهو) أن نسكن معا في نواكشوط 8 سنوات, وكنت سبقته لنواكشوط للدراسة وزودني برسالة لصديقه وأستاذي محمد فاضل ولد محمد الأمين، وكان وقتها أستاذا في الثانوية العربية ليكون وكيلي في المدرسة, وبعد عام حضر الندى للعمل في نواكشوط وكان المنزل الذي نسكنه قريبا من منزل الأستاذ محمد فاضل ولد محمد الأمين، ومنزل الشيخ محمد سالم ولد عدود، ومنزل محمد المختار كاكيه... وغير بعيد منا مكاتب الجمعية الثقافية الإسلامية التي كانت تمثل الإطار التنظيمي للحركة الإسلامية في موريتانيا يومذاك، وكان الندى عضوا نشطا في الجمعية وكان كثير الأصدقاء... أما أنا فكنت شابا لما اطو بعد السنة الـ21 من عمري، وقد تشبعت بمبادئ القومية العربية أيام الدراسة في الثانوية العربية, أيام كان التكوين السياسي توأم التكوين العلمي, كنا نخرج من قاعة الدراسة إلى خلايانا لنتلقى التكوين العقدي... كنا متحمسين ثائرين تجري فينا دماء الشباب وحب الثورة, وكنا نؤمن بضرورة الوحدة العربية، ونرى أن السبيل إلى ذلك هو التخلص من كل الأنظمة العربية العميلة وعبدة الكراسي, وكنا نرى أن الحدود بين الدول العربية وهم من اختلاق المستعمر وأعوانه.. كانت أحلامنا اكبر منا, ..في تلك الفترة كنا نتقوى بالشيخ محمد سالم ولد عدود ونقول إنه قومي ناصري ونحتج ببعض محاضراته عن علاقة الإسلام بالعرب, وبعض شعره في عبد الناصر، وحدث أن كان يحاضر أمامنا يوما وكان نصف القاعة يدوي بالتكبير ونصفها بالتصفيق, ولما انتهى سأله سائل، فقال: يا شيخ هل أنت حقا ناصري؟. فأجابه: أعوذ بالله [يوم ندعو كل أناس بإمامهم] أن يكون إمامي سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل هذا أستطرده إظهارا لعظمة الرجل وإنصافه وسعة صدره، فقد كان الندى مطلعا على أفكاري (إن جاز أن تسمى المراهقة الفكرية أفكارا) وكنا نخرج معا أيام الانتخابات النقابية، ونجلس على كرسيين متلاصقين، ويصوت كل منا لجماعته.. ثم نعود إلى المنزل لا طفلا في عطف أب حنون، بل صديقا حميما لخل أمين، وكأن شيئا لم يكن.. لم يحاول أبدا أن يقنعني بزيف ما أومن به أو صدق مبادئه.. وكثيرا ما أكون جليسه مع أصدقائه الذين يزورونه ويتحدثون في أمور الإسلام والأمة الإسلامية، وأصبحت أستأنس بأحاديثهم وأتفهمها، وكانت بداية تساؤلات كبرى ليس هذا محل ذكرها...

كنت كثير القدوم عليه في مكتبه أيام المرحوم المختار ولد حامدن, كانا في مكتب واحد وأدركت أن تلك الفترة كان المختار يهيئ فيها تسليم كل مهامه في البحث والتدوين للندى ليرحل هو إلى الديار المقدسة.. وكان إذا قدم علينا نقف للسلام عليه, وفي يوم من الأيام قال للندى: يا محمد المصطفى أنا أحب أن تقف للسلام علي دائما, ولاحظت أن الندى بعد هذه الجملة صار يسلم عليه جالسا ولما سألته، قال لي: الشيخ يحيلني إلى حديث "من سره أن تثب له الرجال وقوفا فليتبوأ مقعده من النار"، وهذا معناه أني إن قمت للسلام عليه فكأني أحب أن يدخل النار... فما أروع الرجلين، وما أعمق فهمهما، يتحاوران ويتفاهمان بلغة الإحالة...

للندى أوليات في قريته حيث شجع بوجوده معلما في المدرسة كثيرا ممن كانوا يقاطعون المدارس النظامية، فقال قائلهم لا بأس إذن في المدارس لأن الندى قبل أن يكون معلما بها في سنة 1968-1969 ذهب يوما إلى البئر فوجد عندها أمة من الناس يسقون وأمة من الناس يشقون.. شبانا لا هم لهم إلا تعذيب الدواب وإسقاط ما قدروا عليه منها في البئر... لم يطاردهم كما يفعل غيره من الرجال لأنه يعلم أنهم أقدر منه على الجري... ناداهم وكان فيهم بعض أهله وفتح أحد الحوانيت المهجورة وقاموا جميعا بكنسه وأحضر سبورة كان أعدها لنفسه وكتب لهم بعض الشعر واستحسنوه، ثم بدا يعلمهم مبادئ الحساب والسيرة والنحو وكان ذلك سببا في دخول كثير منهم المدرسة النظامية.

هو أول من أقام تعاونية زراعية استفاد منها الحي الشرب بأنابيب المياه, واستعمال الخضروات المساعدة في القضاء على سوء التغذية... هو أول من فتح قسما لتعليم النساء وانتقل بهن من: "علموهن الخيط ولا تعلموهن الخط", وقد عرفت كثيرا منهن يحفظن ويشرحن قرة الأبصار, ويحسن عمليات الحساب من جمع وضرب وقسمة... ويحفظن الفاتحة صحيحة, ويجدن الطهارة وغير ذلك من أحكامهن المعقدة.

هو أول من سن زراعة الشجر في القرية إدراكا منه لأهميته بيئيا، وكان يروي الأحاديث المشجعة على ذلك كأجر كل غرس تأكل منه طير...الخ.

في يوم 25/05/1990 توفيت زوجه أم البنين بنت المختار الحاج وهي أيضا امرأة ليست كالنساء, كانت طاهرة عفة حسنة الأخلاق, كانت من النساء الصالحات العابدات السائحات الصائمات الساجدات القانتات التائبات, وأرجو من القارئ ألا يظن أن وزن فاعلات جمح بي، فهذه شهادة أشهد بها أمام الحق جل وعلا، وأعلم أن سوف تكتب شهادتي وأسأل... كانت صنائعها أكبر من سنها.. لذلك كان موتها حدثا جللا... كان مأساة على القرية كلها.. فبكاها الأبعدون قبل الأقربون لذيوع صيتها في الفضل والعبادة والورع.

ولم يكن الندى حاضرا... علم بالخبر وهو في طريقه كعادته إلى المسجد لصلاة المغرب... صلى واحتسبها لله... غير آبه بثقل التركة: صبية صغار... لكن الندى كان يعلم أن الأجل لا يؤخر وأن الله خير لعباده من عباده... وقدم وكنت حاضرا ساعة قدومه, فإذا هو يعزي معزيه بدل أن يعزوه... لأن أحدا في هذه اللحظة الأليمة لم يقدر أن يحبس بكاءه , وكان الندى يبتسم ويخفف على المصابين عاضا على آلامه ممتنعا أن تقطر له دمعة... وحسبك أن تعلم أن والدة أم البنين السيدة (داده) وهي امرأة صالحة قوية الإيمان لها صبر الرجال، قالت قبل أن يقدم الندى إنما يحزنها ليس موت أم البنين ابنتها الغالية والبارة, وإنما وقع موتها على الندى وطلبت الدعاء بتخفيف المصاب عليه.

في هذا المقام أيضا بادر الشعراء والعلماء إلى رثاء السيدة الفاضلة وتعزية الندى فيها:

وسنورد شواهد لشعراء ليسوا من عشيرة الفقيدة:

قال محمد الحافظ ولد السالك ولد الطلبه:
يا ربنا أم البنين بنـــــــــــــــي الندى *** تخذت لدى الأخرى جـــوارك مقعدا
يا رب انزلهــــــــــــــــا مبارك منزل *** قصرا بمــــــــــا ترجوه منك مزودا
تحيا حياة السادة الشهداء فــــــــــــي *** أكنـــــــــاف عيش من نعيمك أرغدا
كن فـــــــــي العيال خليفة من بعدها *** يحيا كريمـــــــــــــــا لا يتيما ذا هدى
فـــــــــي ظل والده الكريم ابن الندى *** وأبــــــــــي الندى بل إنه عين الندى


وقال السيد محمدي فال ولد بوه:
لا يمنــــــــــع الموت أزواج وزوجات *** الموت حق وكل النــــــــاس أموات
فارجع إلى الله واصبر صبر محتسب *** أم البنين فــــــــــــــــما تجديك أنات
الخ

وقال السيد محمد الحافظ ولد أحمدو:
عجبت لأمر المؤمنين كمـــــــــــا عجب *** لذاك رسول الله إسوتنــــــــا العجب
يمحــــص حزن المؤمنين نفــــوسهم ***     كما قد جلا الكير الكريم من الذهب
إذا ظعنت أم البنين فــــــــــــــــــــــإنها *** هي البدر زان الأفق إذ تم فاحتجب
وقد خــــــــــــــلفت ذكرا جميلا وسيرة *** تهز بهــــــــا العطفين أيامها طرب
ونالت رضى الزوج اللبيب الفتى الندى *** وأم بنيه المنــــــــــــتقاة قد احتسب
فــــــــــــيا فوزها في جنة الخلد بالسنى *** ويا غنمه إذ قدم الفــــــــرط الأحب
الخ
وقال السيد محمد يحيى ولد سيد أحمد:
رحم الله أرحـــــــــــــــــــم الراحمينا *** غرة القانتـــــــــــــــــات أم البنينا
وهي أم الإخوان برا وعطفـــــــــــــا *** والأقاصي فـــــضلا عن الأقربينا
من تحــــــــــــــلت بكل وصف حميد ***  يعجب الشاهدين والغائبـــــــــــينا
فــــــــــــــــــــجزاها الإله خير جزاء *** يوم يجزي بفــــــــضله المحسنينا
فلئن ودعت فـــــــــــــــــغر المساعي *** والمزايــــــــــــــــا مع الثناء بقينا
وسقى الله قبرها كــــــــــــــــــل جود *** من رضاه وروحه آمـــــــــــــينا
وأنـــــــــــــــــــــال الندى ابنه وذويه *** بعدها الأجر والهـــــــــدى واليقينا
الخ

وقال السيد محمد يحظيه ولد المختار الحسن:
لا يدفع الموت إيمـــــــــــــان وإحسان *** فــــــالموت فرض ولا يعدوه إنسان
فاصبر فـــــما مات من أمست مناقبه *** بكل نـــــــــــــــــــاد لها ذكر وتبيان
ما مات في الناس من إن تنس صورته *** لم يعر ذكرا له بالخير نسيان
لا أحبط الله أجـــــــــــــــرا أنت نائله *** يا ابن النــــــــــدى وأقر العين ولدان
وأم قبرا به حلت فـــــــــــــــــــقيدتنا *** مزن لها بالرضــــــــــى سح وتهتان
ففـي البنين الكرام الزهر حسن عزا *** لنا وحسن رضى لو عز فـــــــــقدان
وفيك أنت لنــــــــــا من كل ذاك وذا *** يا ابن الندى العيلم الأرضـــى لسلوان
الخ

وقال محمد إبراهيم ولد محمد عمران:
أسنى السلام إلى أسنى الكرام غدا *** فـــــي طيه من عميق الود ما رغدا
لمــــــــــا نعى السيد الأستاذ خلته *** أم البنين وأم مثلها فـــــــــــــــــــقدا
يــــــــــا رحمة الله أمي قبر سيدة *** مكسوة من خصــــــال البر ما حمدا
يا رب بارك على أنجالها وأبـــــي *** أنجالها المصطفى مصطاف كل ندى
الخ              

وقال محمد نافع من الشعرالحساني:
أم البنين خصـــــــــــالك ذيك *** ما رينـــــــــاه فل خاطيك
بيك ال فــــــــلحك اسك بيك *** خاطر ج كامــــــل يستبشر
بيه اسند الفـــــــــاصل فيك *** الا رامـــــــل ذاك اووخر
هذ كامـــــــــل م ظاي فيك *** ومن ل مــــــا عديت أكثر
نكر حد اكد انـــــــــــاصيك *** افمــــــــعروفك ما تصور
وكتن عدت ذ اكد خليــــــك *** كست مقامــــــــــك ذ لوخر
الله يعطيك ال يرضـــــيك *** من الخيرات ال تبــــــــهر

للحديث بقية...

2 التعليقات:

تقبل الله منك استاذنا الكريم و لا زلنا في انتظار بقية الحديث علي الصفة التي ذكرنا سابقا

رحم الله الندى رحمة واسعة....قد كان من القليلين الذين اعترف لهم ذووهم بالفضل قبل ان يموتوا...رحمه الله ما اعظمه.

إعلان